الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الإجابة المختصرة “ميزان المدفوعات”؛ هاجس ترمب هو أن يأخذ من العالم الخارجي أكثر مما يعطي من الأموال، وهذا ليس هاجس الولايات المتحدة الأمريكية فقط بل كل دول العالم، لمن استطاع لذلك سبيلاً.
أما حكاية ميزان المدفوعات مع أمريكا فهي أنه منذ العام 1982، أي على مدى ما يزيد عن أربعة عقود، والحساب الجاري لميزان المدفوعات للولايات المتحدة الأمريكية يعاني عجز. والحساب الجاري هو محصلة تعاملات الاقتصاد مع الخارج، أي أن الولايات المتحدة نُخرِج دولارات أكثر مما يُجلب لها. السبب الرئيس للعجز هو العجز في الميزان التجاري للسلع، فيما عدا ذلك تتمتع الولايات المتحدة بفائض. في العام الماضي (2024) قدر العجز بالحساب الجاري بـ 3.9 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووتيرته الميل إلى التصاعد عاماً بعد عام، حتى أصبحَ رقماً مخيفاً حيث بلغ 1135 مليار دولار نهاية العام الماضي، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لدول برمتها.
ومن هذا المنطلق يسعى ترمب إلى معالجة العجز في الميزان التجاري السلعي، (حيث العجز الأساس، ويهمل الميزان التجاري الخدمي حيث الفائض) من خلال رفع التعرفة الجمركية على السلع التي تستوردها الولايات المتحدة وتدفع مقابلها دولارات، وبذلك هو يسعى زيادة تكلفة تلك السلع للحد من الطلب عليها وبالتالي تقليل الدولارات التي تخرج من الولايات المتحدة لشرائها، وفي المحصلة يأمل أن يتقلص العجز السلعي للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يخفض العجز المزمن والمتعاظم في ميزان الحساب الجاري الأمريكي. هل ستنجح هذه الخطة أم لا هو أمر ليس محل اتفاق بين الاقتصاديين، وفوق هذا لم يصدر أي تقدير رسمي عن الأثر الاقتصادي المتوقع نظير رفع الرسوم الجمركية على السلع فيما عدا تقدير من المستشار التجاري في البيت الأبيض (بيتر نافارو) بأن الرسوم الجمركية قد تولد 600-700 مليار دولار سنوياً في المتوسط على مدى العشر سنوات القادمة، فيما يعتقد اقتصاديون بأن التقدير قد يكون أقرب إلى 100-200 مليار دولار سنوياً.
ومن جانب آخر، ولجلب المزيد من الدولارات للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أطلق الرئيس ترمب عدداً من المبادرات لإقناع المستثمرين القدوم للولايات المتحدة الأمريكية، ومن أبرزها: (1)مبادرة مسرعة الاستثمار بتخفيف الإجراءات التنظيمية المتبعة من قبل الإدارات الاتحادية وقد ساهمت في استقطاب استثمارات داخلية وخارجية تقدرها الادرة الامريكية بأكثر من 5 ترليون دولار، (2)سياسة أمريكا أولاً للاستثمار وهي سياسة تعنى بفتح الاقتصاد الأمريكي على مصرعيهِ أما المستثمرين مع منع الدول المناوئة مثل الصين وروسيا وإيران، (3) كما هو معروف فبرنامج ترامب الاقتصادي يقوم على ثلاثة مرتكزات الرسوم الجمركية والاعفاءات الضريبية والتحرر التنظيمي (deregulation) بما يجعل الاستثمار في الولايات المتحدة أكثر تنافسيةً و(4) برنامج البطاقة الذهبية الذي يمنح من يستثمر مليون دولار وأكثر في الولايات المتحدة ويخلق عشر فرص عمل مقابل دفع 5 ملايين دولار للحصول على البطاقة، (5) فإن سياسة رفع التعريفة الجمركية تهدف كذلك إلى الضغط على المصدرين إلى صناعة سلعهم في الولايات المتحدة عوضاً عن التصدير إليها، وقد قال ذلك ترمب بصراحة مراراً: حتى تدفع “صفر” رسوم جمركية عليك أن تصنع منتجاتك في الولايات المتحدة الامريكية.
ولابد من الإشارة إلى أن إبقاء الأموال في الداخل تحدي حقيقي، لكنه هو الخطوة الضرورية الأولى والشرط السابق لاستقطاب الأموال من الخارج، بمعنى أن نجاح إدارة ترمب في تحسين مناخ الاستثمار واستقطاب المزيد من الأنشطة الصناعية والخدمية لإقناع المستثمرين والمستهلكين بإنفاق /استثمار أموالهم في الداخل، فستكون تلك خطوة حرجة الأهمية لبناء القدرة لاستقطاب أموال (دولارات) سيجلبها القادمون (بالفيزا الذهبية) أو المستثمرون من أرباب الأموال إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
إذن، النقطة بسيطة: “الدولار” الذي يبقى ضمن كنف الاقتصاد الأمريكي هو دولار يُوَلّدّ ويولد دولارات، طبقاً لمفهوم “سرعة المال” (Velocity of Money) ، وهنا نأتي لما يرمي إليه ترامب في حال فرضه ضريبة (قد يكون قدرها 3.5 بالمائة وتدخل حيز التنفيذ في بداية العام 2026) على تحويلات المقيمين في الولايات المتحدة الامريكية من غير المواطنين، ففي العام 2023 بلغت تحويلات الأجانب المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية 656 مليار دولار، وفي رأس الدول المستقبلة لتلك الأموال الهند (32 مليار دولار)، ما يعني 1.112 مليار دولار لصالح الخزانة الاتحادية، فيما لو طُبقت الضريبة المقترحة. وهناك من يعارض هذه الضريبة على أرضية أن أصحاب تلك الأموال يدفعون ضريبة دخل فلماذا يدفعون هذه الضريبة الإضافية؟ فضلاً عن أن فرض هذه الضريبة قد يؤدي إلى استخدام قنوات غير مرخصة لتحويل الأموال للخارج. أما من الناحية اقتصادية، فعلى الرغم من أن تلك الضريبة لن تُدر الكثير من المال على الخزانة الاتحادية لكن أثرها الأهم هو أنها -على الأرجح- ستقلص التحويلات إلى الخارج بأضعاف ما ستجلبه إيرادات الضريبة المقترحة، بمعنى أن أموالاً أكثر ستبقى في دوحة الاقتصاد الأمريكي فتتسارع وتولد المزيد من الدولارات!
أعود لنقطة البداية لأقول إن ضريبة الاقتطاع على تحويلات الأجانب المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية مبررها هو خفض عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات، وفائدتها أن تبقى الأموال داخل حظيرة الاقتصاد الأمريكي لتتوالد من خلال إيجاد موانع للتحويل للخارج وفي نفس الوقت إيجاد حوافز لإبقاء الأجانب المقيمين أموالهم في الداخل. ولذا، فمبادرة ترمب لفرض 3.5 بالمائة على التحويلات ليست منفردة بل من ضمن حزمة اقترحها الرئيس ترمب لفترة حكمهِ الثانية، تشمل تعديلات ضريبية وتخفيضات في الانفاق الحكومي بالإضافة إلى بنودٍ أخرى.
السؤال: هل ينتج ترمب في خفض العجز المزمن في الحساب الجاري من خلال هذه المبادرات؟ في تقديري، على الأرجح لا، والسبب أنه يتبع سياسات انغلاقيه لبلد هو أكبر مستفيد تاريخياً من الانفتاح، وبقي لسنوات طويله هو الكاسب الأكبر من ذلك الانفتاح؛ فأمريكا تستقطب أفضل العقول واليد العاملة من الهند والمكسيك وسواهما لتساهم في توليد قيمة مضافة للاقتصاد الأمريكي، كما أن الولايات المتحدة تتمتع بفائض كبير في تجارة الخدمات ولاسيما الخدمات المالية والسياحة والطلبة الأجانب، كل هذا سيتبخر بالتدريج لصالح بلدان أخرى.
وهكذا، فعلى الرغم من أن تقليص العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات أمر حرج الأهمية دون ريب، فمهمٌ كذلك النظر لمكونات ميزان المدفوعات برمتها لتحقيق توازن مستدام، فمثلاً -ولن أطيل- الرئيس ترمب يسعى إلى زيادة وتيرة التصنيع مرة ثانية، ولتحقيق ذلك سيحتاج لليد العاملة الماهرة، والأرجح أنه سيحتاج لاستقطاب أعداد كبيرة من العمالة الماهرة من الخارج وكذلك لاجتذاب مستثمرين من الخارج، فإن كان سيشترط عليهم أن يقطعوا صلتهم بالعالم فقد يخاطر بأن يتجهوا إلى بلدانٍ منافسة، في وقتٍ يعايش العالم فترة تشظي اقتصادي لم يشهدها منذ انقضاء الحرب الباردة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال