الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل التحولات التشريعية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية ضمن مستهدفات رؤية 2030، لم تعد التشريعات مجرد أدوات لتنظيم العلاقات أو فرض الالتزامات، بل أصبحت من أبرز الوسائل التي تجسّد التوجهات الاستراتيجية للدولة، وتعزز العدالة، وتحفّز النمو، وتُسهم في استدامة الموارد، في إطارٍ من الحوكمة الرشيدة والمساءلة المؤسسية. ومن هذا المنطلق، تتزايد الحاجة إلى أدوات منهجية لقياس الأثر التشريعي تضمن اتساق النصوص النظامية مع الواقع، وتكشف بموضوعية عن كفاءتها وعدالتها وفعاليتها. فبقاء التشريعات خارج دائرة التقييم قد يؤدي إلى اتساع الفجوة بين النص والتطبيق، ويعطّل إعادة ضبط السياسات وفقًا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، مما يُفقد النصوص مرونتها ويحد من قدرتها على تحقيق غاياتها التنموية.
ورغم صدور قرار مجلس الوزراء رقم (713) لعام 1438هـ، الذي ألزم الجهات الحكومية بإرفاق دراسات تحليلية شاملة عند إعداد مشروعات الأنظمة واللوائح، تغطي الأبعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية، لا يزال التطبيق في كثير من الجهات شكليًا، يفتقر إلى أدوات التحليل العلمي واستخدام البيانات الدقيقة. وقد أدى ذلك إلى تعامل بعض الجهات مع متطلبات القرار بوصفها إجراءً بيروقراطيًا لا يتجاوز الشكل دون المضمون، بدلًا من أن تكون أداة تقييم موضوعية. والأهم من ذلك أن القرار ذاته لم يتضمن إلزامًا بإجراء تقييم لاحق للتشريعات بعد نفاذها، مما أدى إلى استمرار عدد من النصوص النظامية رغم تقادمها أو محدودية أثرها، دون مراجعة دورية تُعيد ضبطها بناءً على التجربة الميدانية والمستجدات التشريعية.
وقد تناول الدكتور راكان الحربي هذه الإشكالية في دراسته المنشورة عام 2024، مشيرًا إلى أن أغلب الدراسات تركز على التحليل السابق للتشريع، بينما يُغفل كثيرًا التقييم اللاحق، رغم كونه الأداة الأهم في قياس الأثر الفعلي وضبط المسار التشريعي. وأوصى باستخدام مؤشرات كمية ونوعية، واستطلاع آراء أصحاب المصلحة، وتقييم البدائل الممكنة قبل إصدار النص وبعد تنفيذه، بما يعزز من جودة القرار التشريعي وفاعليته. ويؤكد هذا التحليل الحاجة إلى تحول مؤسسي يُدمج تقييم الأثر ضمن دورة حياة التشريع، ويجعل منه ركيزة أساسية في صناعة السياسات العامة.
وقد بدأت تظهر في المملكة نماذج واعدة تجسد هذا التحول، من أبرزها برنامج تحليل السياسات واللوائح باستخدام منهجية الأثر التشريعي (RIA)، الذي أطلقته جامعة الملك عبد العزيز بالتعاون مع مركز تنمية القدرات البشرية، ويهدف إلى توطين أدوات التقييم، وتأهيل الكفاءات الوطنية، وتعزيز قدرة الجهات الحكومية على اتخاذ قرارات أكثر توازنًا وفعالية.
كما أعلن منتدى الرياض الاقتصادي، ضمن أعمال دورته الثانية عشرة المقررة في عام 2026، عن إطلاق دراسة وطنية موسعة بعنوان “قياس أثر التشريعات والسياسات العامة ودورها في تحقيق التنمية المستدامة”، تهدف إلى تطوير منهجية علمية لقياس الأثر التشريعي السابق واللاحق على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وتقييم فعالية الأنظمة والسياسات الحكومية، وردم الفجوة بين النصوص النظامية والتطبيق العملي، من خلال أدوات تحليل كمية ونوعية، واستطلاع آراء أصحاب المصلحة، والاستفادة من التجارب الدولية، بما يواكب مستهدفات رؤية 2030. وتُعد هذه الدراسة المرتقبة خطوة استراتيجية يُعوّل عليها في سد الفجوة بين النصوص والتطبيق، وتعزيز كفاءة البيئة التشريعية، ورفع جودة السياسات العامة وأثرها التنموي.
وفي السياق ذاته، قدّم أستاذي وزميلي الدكتور محمد الجرباء، في كتابه “قياس الأثر التشريعي”، معالجة علمية رصينة لأهمية تحليل الأثر كأداة لضمان جودة التشريعات قبل إصدارها، ووسّع نطاق الاهتمام بتقييم آثارها المحتملة على المجتمع والاقتصاد، مقدمًا بذلك مرجعًا علميًا يُثري صنّاع القرار والممارسين في الحقل التشريعي.
وتؤكد التجارب الدولية أهمية دمج التقييم ضمن دورة حياة التشريع. ففي الاتحاد الأوروبي، لا يُعرض أي مشروع على المفوضية دون تحليل أثر شامل يتضمن بدائل التطبيق وتكاليفه وآثاره المحتملة. وفي المملكة المتحدة، تُرفق كل لائحة بمؤشر “هدف أثر الأعمال” لقياس العبء المالي على القطاع الخاص. أما في الإمارات، فقد طوّرت الحكومة دليلًا إجرائيًا لتقييم الأثر ضمن دورة السياسات العامة، أسهم في تحسين السياسات الاقتصادية وتنظيم سوق العمل.
وقد أثبتت هذه التجارب أن الدول التي تبنّت منهجيات علمية لتقييم الأثر نجحت في ترشيد منظومتها التشريعية، وتقليص القوانين غير الفاعلة، وتعزيز رضا المستفيدين، ورفع تصنيفها في مؤشرات الحوكمة والشفافية. ومن هذا المنطلق، يبرز المقترح بإنشاء وحدة وطنية مستقلة لقياس الأثر، تتولى إعداد الأدلة الاسترشادية، ومراجعة مشروعات الأنظمة، وتدريب الكفاءات الوطنية، بما يضمن توحيد المنهجيات وتعزيز موثوقية النتائج وجودة التوصيات.
كما أن نماذج التقييم تتنوع بين النماذج الكمية التي تعتمد على البيانات وتحليل التكلفة والمنفعة (Cost-Benefit Analysis)، وتحليل الأثر التنظيمي (Regulatory Impact Assessment – RIA)، والنماذج النوعية التي تُقدّر الآثار غير الملموسة مثل الثقة العامة والانطباع المجتمعي. ومن أبرز أدوات التقييم المستخدمة مصفوفة الأثر (Impact Matrix)، التي تربط كل بند تشريعي بتأثيراته المتوقعة على الفئات المستهدفة، ما يتيح تصورًا دقيقًا لتأثير التشريع قبل دخوله حيّز التنفيذ.
وفي ضوء ما تقدم، تبرز الحاجة إلى تطوير القرار 713 سالف الذكر، أو إصدار تنظيم مستقل ومحوكم يُلزم الجهات الحكومية بإجراء تقييم لاحق للتشريعات خلال فترة زمنية محددة، يتضمن تقارير دورية تقيس مدى تحقق الأهداف، وكفاءة التنفيذ، والتحديات الميدانية، والمقترحات التطويرية أو الإلغائية. ويفضّل أن تُناط هذه المهمة بجهة محايدة ترتبط بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية أو هيئة الخبراء، لضمان توحيد المنهجيات وتعزيز الحوكمة التشريعية، بما في ذلك تفعيل متطلبات وضوابط إعداد الأنظمة التي تضمنها قرار 713 آنف الذكر، لا سيما ما يتعلق بتفعيل متطلبات قياس الأثر التشريعي السابق.
كما أن ترسيخ ثقافة التقييم يتسق مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 في رفع كفاءة الإنفاق وتعظيم الأثر التنموي، ما يستدعي دمج تقييم الأثر ضمن مسارات إعداد الأنظمة، وتوسيع المشاركة المجتمعية، واعتماد تقييمات واقعية تستند إلى الأدلة والبيانات، بدلاً من الانطباعات أو التوقعات أو المجاملات المؤسسية.
ختامًا، في زمن التحول والطموح، تزدهر التشريعات حين تُقاس آثارها وتُصقل بالتجربة. فبالتقييم المستمر والتحسين الواعي، نبني منظومة تشريعية تُواكب التغيير وتُحدث الأثر المنشود. وهكذا تمضي المملكة بخطى واثقة نحو تحقيق مستهدفات رؤية 2030، بتشريعات تصنع الفرق، وتخدم الإنسان، وتُرسّخ ريادتها في بناء مستقبل أكثر كفاءة وعدالة واستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال