الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في إحدى الأمسيات التي خفتت فيها ضوضاء العالم، وبينما كنت أتصفح تقارير الأداء الربعي للاقتصاد السعودي، استوقفني الصمت الذي يحيط بالأرقام. لم يكن صمتَ اللغة، بل صمتَ الأثر. الأرقام أظهرت تحسنًا في النمو، وتراجعًا في البطالة، وارتفاعًا في الإنفاق الرأسمالي… ومع ذلك، شعرت أن شيئًا ما كان ناقصًا. لم تلامسني. لم تتغلغل في الوجدان. لحظتها سألت نفسي: لماذا نُصرّ على الحديث عن الاقتصاد بلغة لا تُحَسّ؟ ماذا لو جعلنا هذه البيانات تُسمع؟ تُشعَر؟ تُعاش؟
ومن هنا، وُلدت فكرة “موسيقى الاقتصاد”.
“موسيقى الاقتصاد” ليست استعارة شعرية، بل رؤية قابلة للتنفيذ. إنها ببساطة: تحويل المؤشرات الاقتصادية إلى أنغام موسيقية تعبّر عن الحالة الاقتصادية للدولة، كل ربع مالي أو كل عام. فالاقتصاد، في جوهره، كالموسيقى: له دورات، وإيقاعات، ونقاط ذروة وانخفاض. له نبض، وتوتر، واستقرار. وكما تتكوّن الموسيقى من سلالم ونغمات وإيقاعات، فإن الاقتصاد يتشكّل من النمو والانكماش والتضخم والركود. نحن فقط بحاجة إلى موسيقي مبدع يُحوّل هذه البيانات إلى صوت يمكن أن نشعر به.
تخيّل معي: تقرير الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني لا يُقدَّم فقط في مؤتمر صحفي، بل يُعزف. يبدأ بلحن متدرج صاعد يعكس تسارع النمو في القطاعات غير النفطية، تدخل أصوات الكمان لترمز إلى الاستثمارات في البنية التحتية، ثم يصاحبها إيقاع متوازن يمثل استقرار الإنفاق الحكومي. وعند لحظة التباطؤ في أداء قطاع معيّن، يتراجع الإيقاع أو يتوقف للحظة، ليعكس القلق أو الحاجة إلى التدخل.
كل مؤشر اقتصادي يمكن ترجمته صوتيًا:
الناتج المحلي → لحن صاعد أو هابط حسب النمو أو الانكماش
معدل البطالة → فترات صمت أو تكرار بطيء
التضخم → نغمة سريعة متوترة
الاحتياطي النقدي → نغمة عميقة مستقرة
الاستثمارات الأجنبية → دخول آلات جديدة على التكوين الصوتي.
المملكة اليوم تمر بتحول اقتصادي غير مسبوق، تُعيد فيه رسم خريطة الاستثمار، وتبني اقتصادًا متنوعًا، وتُحفز الابتكار والقطاع الخاص. لكن، ماذا عن أدوات إيصال هذه القصة إلى المواطن والمقيم والمستثمر؟ كيف نجعلهم يشعرون بهذا التحول؟ التقارير وحدها لا تكفي. “موسيقى الاقتصاد” تقترح أداة جديدة: أن تكون المعلومة الاقتصادية تجربة حسية.
رغم أن فكرة تحويل البيانات إلى موسيقى لا تزال جديدة على المستوى الحكومي، فقد ظهرت تجارب محدودة حول العالم سعت إلى اختبار هذا الرابط الحسي. في معهد MIT بالولايات المتحدة، طوّر باحثون أدوات لتحويل مؤشرات مثل النمو السكاني أو البطالة إلى نغمات موسيقية، ضمن مشروع تجريبي يُعرف باسم Data Sonification. وفي تجربة فنية أخرى، يقدّم مشروع Listen to Wikipedia تجربة حية يتم فيها عزف كل تعديل على الموسوعة كنغمة مميزة، مما يحوّل التدفق الرقمي إلى صوت بشري محسوس.
وفي المجال البيئي، استخدمت بعض المؤسسات العلمية الأوروبية تحويلات سمعية لبيانات المناخ والزلازل، وعرضتها في متاحف تفاعلية بهدف التوعية. كما أطلقت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مقاطع مرئية لمؤشرات “جودة الحياة” مصحوبة بإيقاعات بسيطة، لتقريب المفاهيم لعامة الجمهور.
لكن هذه التجارب بقيت فردية أو فنية الطابع، ولم تُبن على مستوى السياسات العامة أو المشاريع الوطنية.
وهنا تحديدًا تبرز ريادة الفكرة السعودية: أن تكون المملكة أول دولة في العالم تُحوّل بياناتها الاقتصادية الرسمية إلى أعمال موسيقية مؤسسية، تُبث دوريًا، وتُعرض فنيًا، وتُستخدم تعليميًا، وتُقدم كأداة ثقافية في سردية التحول الوطني ضمن رؤية 2030.
إنها ليست فقط فكرة قابلة للتنفيذ… بل مشروع ريادة ثقافية واقتصادية متكامل.
وهناك بعدٌ آخر لهذه الفكرة، أكثر استراتيجية: “التعليم”، هذه المقطوعات ليست موجهة فقط للجمهور العام، بل يمكن أن تتحول إلى أدوات تعليمية وتوعوية رائدة.
كيف نُعلّم طلاب الثانوية أو الجامعة عن مفهوم التضخم، أو الناتج المحلي، أو السياسة النقدية؟ لماذا لا نربط هذه المفاهيم بسيناريو سمعي حيّ؟ أن يستمع الطالب إلى أثر رفع سعر الفائدة على وتيرة الموسيقى، وأن يدرك الفرق بين استثمار مستقر وآخر مضطرب من خلال تغير الإيقاع، بدلًا من الأرقام وحدها. هذا الربط الحسي يُرسّخ المفاهيم، ويحوّل علم الاقتصاد من مادة جامدة إلى تجربة حية.
بل أبعد من التعليم، هناك البُعد الثقافي والعالمي.
السعودية اليوم تصدّر النفط، وتستقطب الاستثمارات، وتبني الصناعات. لكن ماذا لو أضافت إلى صادراتها فكرة تُحوّل الاقتصاد إلى فن؟ أن تكون المملكة أول دولة تطلق “ألبومًا اقتصاديًا سنويًا” يحتوي على خمس مقطوعات تمثل الفصول المالية الأربعة، ومقطوعة ختامية تمثّل الميزانية العامة. يُنشر هذا الألبوم عبر المنصات الرقمية العالمية، ويُعرض في متاحف اقتصادية وفنية، ويُدرج ضمن فعاليات موسم الرياض أو مهرجانات الأفلام والموسيقى السعودية. تتعاون فيه وزارة الثقافة مع وزارة الاقتصاد والتخطيط عبر شراكة بين الفنان، والمحلل الاقتصادي، ومهندس الصوت. ليس ترفًا… بل نموذج لدمج الهوية الاقتصادية بالفنون الإبداعية.
وأجمل ما في هذه الفكرة أنها تنبع من القيم الجوهرية لرؤية 2030: الشفافية، المشاركة المجتمعية، وتمكين الإبداع المحلي. فعندما تفتح الدولة أبواب الاقتصاد بلغة يفهمها الجميع، فإنها تبني علاقة جديدة مع مواطنيها؛ علاقة تقوم على إشراكهم لا فقط في الاستهلاك، بل في الفهم، والشعور، والمساءلة.
قد يظن البعض أن تحويل الأرقام إلى أنغام فكرة طريفة أو تسويقية، لكن الحقيقة أن “موسيقى الاقتصاد” أعمق بكثير. إنها وسيلة لوضع الإنسان في قلب الاقتصاد. وسيلة لربط العلم بالفن، والمعلومة بالعاطفة، والبيان بالبيئة، والخطاب الرسمي بالمشهد الثقافي. إنها ليست فقط أداة إيضاح، بل أداة تمكين وجداني واقتصادي.
وفي النهاية، الاقتصاد ليس جداول وتقارير فقط. إنه قصة، هي قصة أمة تسعى للنمو، تتحدى التحديات، وتبحث عن توازن بين الموارد والطموحات، ومثل كل قصة عظيمة… تحتاج أن تُروى بصوتٍ يسمعه القلب.
فلنحوّل مؤشر النمو إلى وترٍ يُلهم، ونسبة البطالة إلى صمت نتجاوزه بلحن المشاركة، ولتكن السعودية أول دولة تعزف اقتصادها أمام العالم.
فهل آن الأوان أن نسمع اقتصادنا؟ أن نصنع سيمفونية سعودية تُعزف من البيانات وتُكتب من الأمل؟
ربما… واللحن الأول يبدأ من هنا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال