الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم الأعمال، لا تنتصر الشركات بأسرع قرار، بل بأذكى قرار. ولا يتفوق القادة بكثرة المعلومات، بل بقدرتهم على فرزها وتوظيفها بحكمة. وسط الضجيج المتصاعد في الأسواق والتقارير والانطباعات، تظهر مهارة خفية لكنها جوهرية: التوازن المعرفي. ليست رفاهية فكرية، بل مهارة عملية، هي التي تمنح المؤسسة أو القائد القدرة على النجاة، على النمو، على الاستمرار في بيئة تتبدل كل يوم.
نحن نعيش في عصر لا يعاني من شُح في المعرفة، بل من التخمة. أصبح التحدي ليس في الحصول على المعلومة، بل في تقييمها، فرزها، وتحديد مدى صلاحيتها للتطبيق. المدير الذكي لا يعتمد على وفرة البيانات وحدها، بل على منهجية التفكير التي تحكم قراءته لها. هو لا يسمح لانبهاره بمعلومة أن يتحول إلى قرار، بل يضع تلك المعلومة في ميزان عقلي دقيق، ويختبرها من أكثر من زاوية. هذا هو التوازن المعرفي؛ أن تمتلك الجرأة على أن تقول “لا أعلم بعد”، بدلًا من الانخراط في سباق القرار السريع.
لطالما شهدنا في السوق من يركض خلف كل موجة استثمارية، ويغرق فيها دون دراسة، مبهورًا بما فعله الآخرون. قرأ عن شركة كبرى استثمرت في العملات الرقمية، فقرر تقليدها بلا عمق، فقط لأنه خاف أن يُتهم بالبطء أو الجمود. وبعد أشهر، جلس يحصي خسائر غير محسوبة. في المقابل، هناك قادة امتنعوا عن قرار بدأ مغريًا للجميع، لا لأنهم مترددون، بل لأنهم يعرفون متى تكون “لا” هي أنضج القرارات.
التوازن المعرفي لا يعني التردد، بل النضج. لا يعني البطء، بل الإدراك. هو ما يجعل المدير يقرأ خمسة تقارير ويخرج برؤية واضحة، بينما يقرأ غيره خمسين ويبقى مترددًا. هو ما يميّز من يدرك حدود معرفته، فيستشير، ويقيس، ويُراجع، عن من يظن أن كثرة المعلومات تكفي لصناعة الحكمة.
كل منظمة تحتفظ بأصول مادية ومالية، لكن هناك أصلًا غير ملموس يصعب قياسه لكنه يحفظ الشركة من الانهيار: التوازن المعرفي في الفريق القيادي. كم من شركة انهارت لا لضعف مالي بل لأن قراراتها كانت انعكاسًا لتحيّزات ذهنية، أو لضغوط وقتية، أو لانبهار غير عقلاني. وكم من شركة صمدت لأن في لحظة ما، أحدهم قال: “دعونا نفكر ببطء”.
في تاريخ الأعمال أمثلة واضحة. حين تأخرت نوكيا عن اللحاق بركب الهواتف الذكية، لم يكن السبب في ضعف الابتكار، بل في بيئة معرفية مغلقة، تتجاهل التغير وتُعيد تأكيد قناعاتها القديمة. أما آبل، فنجحت لأنها توازن دائمًا بين الحلم والحذر، بين الإبداع والانضباط، بين الجرأة والتعقّل.
منظمات اليوم التي تدرك هذه القيمة أصبحت تستثمر في بناء ثقافة فكرية متزنة داخل فرقها. لم تعد برامج التدريب تركز فقط على المهارات الفنية، بل على التفكير النقدي، وتحليل البيانات، والتقييم المتزن للقرارات. المؤسسة التي تحفّز موظفيها على السؤال، على مراجعة الفرضيات، على تحدّي ما يبدو بديهيًا، تبني لنفسها جدارًا معرفيًا يحميها من الانجراف الجماعي.
في غرفة الاجتماعات، قد يُنقذ مشروع كامل بسبب مداخلة موظف طرح سؤالًا بسيطًا: “هل نملك فعلاً المعطيات الكافية لنمضي بهذا الاتجاه؟”. هذه اللحظات لا تُقدّر بثمن، لأنها تمنع القرار السريع غير المتزن. وغالبًا، لا يكون هذا الموظف الأذكى فنيًا، لكنه غالبًا الأوضح ذهنيًا.
سرعة القرار في بيئة الأعمال مهمة، لكن الأهم أن تكون نابعة من وضوح، لا من ارتباك. العالم لا يكافئ من يتحرك أولًا، بل من يتحرك بوعي. والتوازن المعرفي هو ما يجعل السرعة مفيدة لا مدمرة، لأن العقل المتزن لا يخدع نفسه بالزخم، بل يلتقط الإشارات الصادقة وسط الضوضاء.
في نهاية الأمر، لا توجد ثروة حقيقية تضاهي عقلًا متزنًا. ولا أصل غير ملموس يمكنه حماية شركة أو فرد مثل التوازن المعرفي. هو ما يجعلنا نستثمر بذكاء، نخطط برؤية، ونتراجع حين يجب أن نتراجع دون أن نخجل. هو ما يصنع الإنسان المتزن، لا الانبهار المكرر الذي لا يسنده وعي ولا تدبر.
في زمن تتغير فيه الأسواق بشكل يومي، يظل العقل الذي يُحسن التفكير، هو الاستثمار الأعظم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال