الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مشهد لا يتكرر إلا مرة في العام، يُكتب للإنسان أن يغادر جغرافيا الوطن نحو جغرافيا الإيمان. يتجرد من لباسه المعتاد، ومن زهوه الاجتماعي، ومن رتبته بين الناس، ليرتدي ثيابًا بيضاء لا تُميز فيها بين ملكٍ وخادم، ولا بين غنيٍّ وفقير. الحج رحلة إلى مكة، تتخلى فيها النفوس عن أحمالها، وتستجيب لنداء الله الذي ردده خليل الرحمن من قرون غابرة:
﴿وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق﴾ [الحج: 27].
وفي هذا الزخم الروحي، تتجلى المملكة العربية السعودية كل عام بحلة تنظيمية جديدة، تجعل من تجربة الحاج رحلة تفيض باليسر والطمأنينة، دون أن تغيب عنها الحكمة الإدارية والدقة التقنية. ففي ظل رؤية السعودية 2030، ظهر الحج الرقمي كتحول عميق في طريقة إدارة الشعيرة، ووسيلة حضارية تسخّر التقنية لخدمة ضيوف الرحمن.
لقد أصبح الهاتف المحمول رفيق الحاج الأول. ففي موسم حج 2024، شهد العالم واحدة من أكثر التجارب الرقمية تنظيمًا، بدءًا من إصدار التأشيرة، مرورًا بحجز السكن والنقل، ووصولًا إلى متابعة الحالة الصحية والخدمات اللوجستية.، وستتكرر في موسم 2025 إصدار جديد لتجعل شعار الحج (يسر وطمأنينة )
منصة “نسك”، التي أطلقتها وزارة الحج والعمرة، تحوّلت إلى محطة مركزية في رحلة الحاج، حيث بلغ عدد مستخدميها أكثر من 3.8 مليون من أكثر من 200 دولة. لم تعد الإجراءات معقدة، ولم يعد الحاج بحاجة إلى مراجعة مكاتب متعددة، فكل شيء في متناول يده: التصاريح، الباقات، التعليمات الشرعية، بل وحتى خرائط المشاعر.
أما تطبيق “تروية”، الذي طورته الشركة الوطنية للمياه، فكان مثالًا على توسيع مفهوم التحول الرقمي ليشمل حتى التفاصيل الخفية، كإدارة مواقع توزيع المياه، وتلقي البلاغات، وتقديم الردود الفورية بلغات متعددة، في مشهد يجسد كيف تُدار الموارد الحيوية بأدوات ذكية.
وفي قلب هذه المنظومة، كان للجانب الصحي حضور نوعي، فقد وفرت وزارة الصحة تطبيق “صحتي” لتسجيل التطعيمات الإلزامية ومتابعة الحالة الصحية، فيما أطلقت هيئة الهلال الأحمر السعودي تطبيق “أسعفني”، الذي يتيح طلب المساعدة الفورية مع تحديد الموقع بدقة، مما اختصر زمن الاستجابة وأسهم في إنقاذ الأرواح.
كل هذه الأدوات الرقمية لم تكن شكلية، بل أسهمت في تحقيق نتائج دقيقة، إذ بلغ عدد الحجاج في عام 2024 1,833,164 حاجًا، منهم 1,611,310 من الخارج، و221,854 من الداخل. وقد استكمل 99% من حجاج الداخل تحصيناتهم، بينما تم إلغاء 150 تصريحًا لعدم استيفاء الشروط الصحية، في مشهد يعكس دقة المتابعة، وصرامة التنظيم، وعمق الشعور بالمسؤولية.
وقد دعمت المملكة هذا التحول الرقمي ببنية تحتية ذكية ومتنامية، أُضيفت حلول تبريد واسعة النطاق في المشاعر المقدسة، شملت توسعة أنظمة الرذاذ المائي في مسارات المشي، وتكثيف المظلات الذكية المزودة بأنظمة تبريد ذاتي، وتوفير وحدات تبريد متنقلة في أماكن التجمع والانتظار، وهو ما أسهم في تخفيض درجة الحرارة المحسوسة بنسبة تجاوزت 7 درجات مئوية في بعض المواقع بحسب بيانات المركز الوطني للأرصاد. وقد جاءت هذه التوسعات استجابةً للظروف المناخية القاسية في صيف هذا العام، وامتدادًا لحرص المملكة على أن يكون الحج آمنًا صحيًا ونفسيًا.
إضافةً إلى ذلك، شملت البنية الرقمية أكثر من 400 نقطة واي فاي مجاني، و750 مركز خدمة متنقل، وآلاف الكاميرات الذكية التي ترصد الحشود، وتدير التدفق البشري بأعلى مستويات الدقة. كما ساهمت الروبوتات التفاعلية في تقديم خدمات الإرشاد والفتوى والترجمة في الحرمين والمشاعر بلغات متعددة، مما عزز من راحة الحاج وسلامته وسلاسة تجربته.
وقد وصفت تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي موسم الحج السعودي بأنه “أكبر حدث سنوي في العالم يُدار بالكامل عبر أنظمة رقمية ذكية”، في إشارة إلى تكامل الدولة ومؤسساتها في جعل الحج تجربة إيمانية خالصة لا تُشوشها العقبات الإدارية ولا يعكر صفوها ضعف الخدمات.
وهنا، تتجلى الحكمة النبوية واضحة في سلوك الدولة وقيادتها:
“يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا” [رواه البخاري].
فالحج الرقمي ليس شعارًا، بل تجلٍّ حضاري لقيمة التيسير، ولوعي عميق بأن العبادة يجب أن تكون في أجواء من الطمأنينة، دون أن يتكبد الحاج عناء التنظيم أو الازدحام أو الجهل بالإجراءات.
في هذا المشهد، حيث تلتقي الأرواح من كل فج عميق، تتجسد عظمة الإسلام، وعدالة الشعيرة، وصدق الوعد. ويظل النداء الإبراهيمي حاضرًا:
﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾
[الحج: 28]
لكن هذه المرة، يتردد صداه في تقارير الأداء، وشاشات الهواتف، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليُقال للعالم: هذا هو الحج حين تتوضأ المناسك بالتقنية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال