الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين نتحدث عن القيادة، يخطر ببال كثيرين تلك الصفات البراقة المكتوبة في الكتب: الكاريزما، القدرة على الإلهام، الخطابة المؤثرة. لكن الحقيقة أبسط وأعمق في آن واحد: القيادة لا تُكتب على الورق أو تدرس في مقاعد الدراسة، أو تدخل في تركيبة الحمض الجيني الوراثي فقط ، بل تُصنع على أرض الواقع، في قلب الأزمات، وسط التجارب التي قد تُكسرك مرة، لكنها تُعيدك أقوى ألف مرة.
أعرف قادة كثيرين قرأوا عشرات الكتب عن القيادة، حفظوا أسماء النظريات وأسماء أصحابها، لكنهم حين وجدوا أنفسهم في مواجهة مشكلة حقيقية، شُلّت أفكارهم. لأن القيادة ليست مجرد معرفة نظرية، بل هي اختبار يومي في معترك الحياة. وهنا يفرقنا جملة صغيرة تلخّص الحكاية كلها: (أخبرني وسأنسى، أرني ولعلي أتذكر، أشركني وسأفهم (
جيمس ماكجريجور بيرنز الذي تحدث عن القيادة التحويلية. لم يكتب عن قادة صنعوا التاريخ من فراغ، بل عن أناس شكلتهم المواقف العصيبة، والقرارات التي قد تغيّر مجرى حياتهم وحياة من حولهم. وكذلك هيرسي وبلانشارد في نظريتهم عن القيادة الظرفية، أكدا أن القائد الناجح ليس ذلك الذي يتشبث بنمط واحد، بل الذي يتلون كالحرباء ليواكب المواقف المختلفة، مستندًا إلى مخزون خبراته المتنوع.
وجميع منظري الإدارة والقيادة حديثا وقديما يرون أن التعلم الحقيقي لا يأتي من القراءة وحدها ، أو الموهبة ، بل من معايشة التجارب وتحليلها واستخلاص دروسها. وهذا ما تفعله المؤسسات الكبيرة اليوم مثل غوغل وأمازون، إذ ترمي موظفيها في مشاريع صعبة، تعلم يقينًا أن الفشل فيها قد يكون أقسى من النجاح السهل، لكنه أيضًا أعمق أثرًا.
تخيّل شابًا يعمل في شركة تقنية كبرى، اعتاد أداء مهامه اليومية بلا خطأ ولا مخاطرة. لكنه ذات يوم أُسندت إليه قيادة مشروع جديد محفوف بالمخاطر. ربما يفشل. وربما ينهار تحت الضغط. لكن في اللحظة التي ينهض فيها بعد تعثره الأول، يتعلم أكثر مما تعلمه من مئات الصفحات التي قرأها عن القيادة. هذه هي اللحظة التي يصنع فيها القادة الحقيقيون. هوارد شولتز، مؤسس ستاربكس، في بداية مشواره، قوبلت أفكاره بالرفض، حتى كاد يستسلم، لكنه لم يعتبر الفشل نهاية الطريق، بل فرصة لإعادة التفكير وصياغة رؤيته. ولو لم يفشل، لما صار هوارد شولتز الذي نعرفه اليوم.
لا بد للقائد من مرونة، كالقصب الذي ينحني أمام الرياح ولا ينكسر. وقد كشفت دراسة لهارفارد أن سبعين بالمئة من القادة الناجحين مروا بتجارب فشل كبيرة، لكنها لم تُحبطهم، بل علمتهم كيف ينهضون من جديد.
وفي العمق النفسي، يكمن سر آخر: العقلية النامية التي تتحدث عن أولئك الذين يؤمنون أن قدراتهم تتطور بالتجربة والاجتهاد، هم القادرون على تحويل الفشل إلى وقود جديد للمحاولة. بينما أصحاب العقلية الثابتة، يظلون أسرى الخوف من السقوط.
القادة العظماء ليسوا خارقين، لكن لديهم سمة نادرة: يرون في كل تجربة درسًا، وفي كل إخفاق فرصةً للنمو. خبرتهم لا تتلخص في عدد سنوات عملهم، بل فيما خرجوا به من تلك السنوات من دروس، ومن قدرة على قراءة المواقف، واتخاذ قرارات شجاعة وسط العواصف.
الخبرة رحلة لا تنتهي، وليست محطة نصل إليها ونعلن الانتصار. إنها طريق مليء بالحفر والتعرجات، لكنه الطريق الذي يجعل من القيادة شيئًا حقيقيًا وملموسًا . فالقيادة ليست في الكتب ولا في الشهادات المعلقة على الجدران فقط ، بل في لحظات المواجهة الحقيقية، حيث تُختبر القلوب والعقول، وتُصقل المهارات لتُصنع من البشر قادةً يلهمون من حولهم، ويدفعون بهم نحو مستقبل أفضل.
وختاما دعونا نتأمل ماقاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً )، والذي جاء في بعض تفسيره أن أغلب الناس أهل نقص ، أما أهل الفضل فعددهم قليل بمنزلة الراحلة الحمولة من الأبل. هؤلاء هم من تميزوا بهذه الصفات الأربع التي تطرقنا لها في هذه المقالات : الموهبة الوراثية ، المهارات المكتسبة ، سعة المعرفة ، وأخيرا عمق واتساع الخبرة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال