الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في معمعة الانبهار العالمي بالتقدم التقني، وفي زحام المقالات التي تحتفي بما بات يُعرف بـ”الذكاء الاصطناعي”، نغفل عن السؤال الأخطر: من يدفع الفاتورة الحقيقية لهذه العبقرية الرقمية؟ الجواب ببساطة: نحن، والبيئة، والاقتصاد، وربما مستقبل الإنسان ذاته.
الذكاء الاصطناعي، أو ما أصبح العمود الفقري لعالم الأعمال الحديث، لا يعيش على الأفكار فقط، بل على طاقة هائلة لا تُرى في لقطات المؤتمرات، ولا تُذكر في نشرات أخبار الشركات. خلف كل نموذج لغوي متقدم، وكل خوارزمية تصنيف مذهلة، يقف جدار من استهلاك كهربائي يكاد يُخرِج العالم من معادلة الاستدامة.
في عام 2024، بلغ استهلاك مراكز البيانات العالمية — وهي القلب النابض لتقنيات الذكاء الاصطناعي — نحو 415 تيراواط/ساعة من الكهرباء، أي ما يعادل استهلاك دول كاملة مثل فرنسا أو الأرجنتين. وتشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى أن هذا الرقم سيتضاعف ليصل إلى 945 تيراواط/ساعة بحلول 2030، مع تصاعد مساهمة الذكاء الاصطناعي إلى ما يقارب نصف هذا الاستهلاك. وبانبعاثات قد تتجاوز 500 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا بحلول 2035، فإن هذا “الذكاء” يبدو شديد التناقض مع التزامات العالم المناخية، ويكاد يقوّض محاولات الحدّ من آثار التغير المناخي بدلًا من أن يعالجها.
السؤال الذي لا يُطرح عادة هو: هل الذكاء الاصطناعي “ذكي” فعلاً؟ أم أننا نمنحه صفة لا يستحقها لمجرد أن نتجنب مواجهة تكلفته الحقيقية؟ الذكاء بمعناه الفلسفي لا ينفصل عن الإدراك والوعي بالعواقب. لكن التقنيات الحالية لا تدرك شيئًا. هي مجرد أنظمة شرهة، تنفذ أوامرها بكفاءة، لكنها بلا وعي بيئي أو اقتصادي.
ما يحدث اليوم هو أننا نُحمّل شبكات الكهرباء مسؤولية نمو قطاع غير مكترث بآثاره، ونقوم بتوسيع سعة الطاقة لتغذية نماذج تدريبية تحتاج إلى آلاف الساعات من المعالجة، ومئات الآلاف من وحدات الحوسبة، وكل ذلك من أجل الوصول إلى إجابات ربما كان بإمكان عقل بشري مدرب أن يجيب عليها ببساطة، لكن دون بهرجة.
دعونا نضع الأرقام جانبًا للحظة، وننظر للصورة من زاوية مختلفة: هل نحن نسمح بخلق نظام غير متوازن؟
نمو الذكاء الاصطناعي يُعادينا على صعيدين: الأول، هو التنافس على موارد الطاقة مع القطاعات الحيوية مثل النقل، الصناعة، والإسكان. والثاني، هو التهديد باستنزاف موارد كوكب يعاني أصلًا من أزمة بيئية خانقة.
الأسوأ من ذلك أن ما يُبنى من البنى التحتية الداعمة للذكاء الاصطناعي لا يُصمَّم من أجل المستقبل، بل من أجل السرعة والربحية. معظم مراكز البيانات تُنشأ اليوم دون التزام حقيقي بالتحول إلى الطاقة المتجددة، رغم وفرة التقنيات التي تسمح بذلك. لكن حين لا يوجد ضغط تشريعي، ولا عقوبة على التراخي، تستمر الشركات في الحلول الأرخص، ولو كانت الأكثر تدميرًا.
لنكن صريحين: الذكاء الاصطناعي لا يحتاج فقط إلى كفاءة حوسبة، بل إلى كفاءة أخلاقية. وهذه الكفاءة لا تُبنى في خوارزميات، بل في منظومة القيم التي نُحمّل بها التكنولوجيا. إنفاق المليارات على نماذج تُقلّد اللغة البشرية أو تُحلل الصور لا يجب أن يكون أولوية إذا كانت تكلفته إفقار الشبكات الكهربائية وتعطيل جهود خفض الانبعاثات.
بل إن التوسع المهووس في هذه النماذج قد يحرم الدول النامية من فرص حقيقية في استخدام الطاقة لصالح البنية التحتية والتعليم والصحة. وعندما تُوجَّه الاستثمارات نحو مراكز البيانات بدلاً من محطات الطاقة المستدامة، فإننا لا نبتكر، بل نُعيد تشكيل الاستعمار الطاقي بشكل جديد، حيث تستأثر الدول القوية بالتقنيات والموارد، وتترك البقية تُصارع لأجل البقاء.
أضف إلى ذلك أن أحد أكبر مغالطات النقاشات الحالية حول الذكاء الاصطناعي، هو الحديث عن “التحول الأخضر” داخل هذه الصناعة، وكأن تركيب بعض الألواح الشمسية على سطح مركز بيانات في وادي السيليكون كافٍ ليُغسل كل ما تحته من انبعاثات. بالطبع ليس كذلك، فالطاقة المتجددة لا تُقاس بالشعارات، بل بالنسب الفعلية، وبالالتزام الكامل بسلاسل إمداد نظيفة، وتصميم مستدام.
بل الأسوأ أن بعض الشركات بدأت في بيع “الذكاء الاصطناعي الأخضر” كمنتج تجاري، وتُقحم مفردات البيئة كحيلة تسويقية، بينما تظل العمليات الأساسية تُدار بالفحم والغاز. وهنا يظهر انفصام خطير بين ما يُقال وما يُفعل، بين الصورة المُعلنة، والواقع غير الأخلاقي الذي يُدار في الخلف.
الذكاء الاصطناعي ليس خطرًا في ذاته، بل في صمتنا عن تداعياته. نحن لا نرفض التطور، بل نرفض أن يكون هذا التطور على حساب حياة الأجيال القادمة. والمفارقة أن النظام الذي يُفترض به أن يُحاكي العقل البشري، لم يُبرمج بعد على التفكير في العواقب.
إن الاستدامة يجب أن تكون قلب الذكاء الاصطناعي، لا ديباجته. يجب إعادة تصميم هذه الثورة التكنولوجية لتخدم التوازن لا تدمّره. عبر تشريعات حازمة، وضرائب بيئية على الطاقة الكربونية، وتحديد حصص استهلاك للطاقة لكل شركة تقنية، وتقييد النماذج العملاقة التي لا تُبرر طاقتها المستهلكة بأثر اقتصادي ملموس.
الذكاء الحقيقي لا يُقاس بحجم البيانات، بل بقدرتنا على إدارة التكنولوجيا دون أن نُدمّر أنفسنا بها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال