الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل سوق نشأ بقوة الحاجة، هناك ما يُعرف بـ”المنطقة الرمادية”؛ تلك المساحات التي لا يحكمها نظام مكتوب، ولا ينظمها قانون نافذ، بل تُدار بفطرة العرف، واتفاقات الصمت، وعبارة “هكذا تعودنا”. ومع الزمن، يصبح هذا العرف أمضى من النص، وأرسخ من اللوائح، حتى إذا جاء من يعيد الأمور إلى أصلها، بدا وكأنه يخالف المنطق، لا لأنه أخطأ، بل لأنه قطع سكون المألوف.
ومن هذه المنطقة الرمادية، خرج الجدل القديم المتجدد حول عمولة “السعي” في السوق العقارية. فمنذ أن صرحت الهيئة العامة للعقار بأن طالب الخدمة هو من يتحمل السعي، عاد الحديث من جديد عمّن يدفع ومن يستحق، وسط سوق تتسارع فيه الصفقات، وتتعاظم فيه القيم، وتظل فيه بعض التفاصيل الجوهرية معلقة بين العرف والتنظيم.
يبدأ هذا المفهوم من سوق كان فيه البائع يبحث عن مشترٍ، لا العكس. فقديمًا، كان البائع هو من يتحمل السعي، لأنه هو من يطلب من الوسيط أن يدل الناس على عقاره، في وقت كان فيه المشتري نادرًا والبائع وفيرًا. ثم تغير السوق، وارتفع الطلب، وأصبح المشتري هو من يبحث، فانتقلت العمولة إليه تلقائيًا، وتحوّلت إلى عرف لم يراجع طويلًا.
ومع مرور السنوات، استقر هذا العرف في ذهن الناس حتى بات لا يسأل عنه، وصار من البديهي أن يدفع المشتري السعي، حتى وإن لم يطلب الخدمة. ثم جاء التنظيم العقاري المعاصر، وحدّد الأمور على نحو مختلف: طالب الخدمة، أيًا يكن، هو من يتحمل العمولة، بشرط وجود عقد وساطة موثق وواضح.
ويقول خبراء عقاريون إن هذه العودة تعزز مبدأً قديمًا ذكره الدكتور صالح الأطرم في كتابه الوساطة التجارية، الصادر عام 1416هـ، مؤكدًا أن “الأجرة على من وسطه”، وهو المفهوم ذاته الذي تبنّته الهيئة في تحديد طالب الخدمة بوصفه الطرف المستحق للمطالبة بالعمولة. ما يعكس اتساقًا واضحًا بين أنظمة السوق الحالية والأسس التجارية التي استقر العمل بها منذ عقود.
وفي النظام المعتمد حاليًا، حسمت الهيئة الجدل بشكل رسمي من خلال المادة (14) من نظام الوساطة العقارية، التي نصت على أن “عمولة الوساطة تحدد بنسبة 2.5% من قيمة الصفقة إذا كانت بيعًا، أو من إيجار السنة الأولى إذا كانت تأجيرًا، ويتحمل دفعها الطرف المتعاقد مع الوسيط، ما لم يتفق كتابيًا على غير ذلك”. هذا النص لا يترك مساحة للاجتهاد، ويلغي أي افتراض مبني على العرف دون وثيقة واضحة.
هذا التحول النظامي لا يزال يواجه تحديات على أرض الواقع. فخلال الربع الأول من العام الجاري، تم تسجيل أكثر من 96 ألف عقد وساطة، في سوق تجاوزت قيمة صفقاته 2.5 تريليون ريال في عام 2024، ورغم ذلك لا تزال بعض العقود تفتقر إلى التوثيق المسبق، وبعض المطالبات تُبنى على تفاهمات شفهية أو اتفاقات غير مكتوبة، ما يجعل النزاعات محتملة، ويُضعف موقف الأطراف أمام القضاء. وتشير تقديرات من خبراء قانونيين إلى أن نسبة ملحوظة من القضايا العقارية المنظورة في بعض المحاكم ترتبط بمطالبات عمولة السعي، وهو ما يسلّط الضوء على هشاشة التعاملات غير الموثقة، وغياب آلية واضحة للفصل الفوري فيها.
تزداد الإشكالية مع دخول أكثر من وسيط في الصفقة الواحدة، وغياب ترتيب الأدوار بينهم، ووجود تفاوت في الوعي النظامي لدى المتعاملين. ويشير بعض المختصين إلى أن حل هذه الفوضى لا يكمن فقط في النصوص، بل في تفعيل الربط التقني بين منصة الهيئة العامة للعقار والجهات القضائية، واعتماد نموذج عقد وساطة موحد وملزم قبل بدء أي عملية تسويق. التوثيق الإلكتروني المسبق يقلص النزاعات، ويحفظ حق الوسيط والمستفيد على السواء، ويختصر طريق الإثبات في حال النزاع.
كما أن بعض المنصات الرقمية خرجت عن دورها كأداة تقنية، واتخذت شكل الوسيط الفعلي دون التزام واضح بنموذج الوساطة النظامي، مما يربك المشهد ويستدعي تنظيمًا أدق لدورها وحدود تدخلها في العملية العقارية.
ومن وجهة نظري، فإن من أبرز الحلول العملية التي يمكن أن تسهم في تفعيل هذا التنظيم: توثيق عقد الوساطة بشكل إلزامي قبل عرض أي عقار، وربط هذا العقد بعملية الإفراغ في أنظمة التوثيق الرسمية، واعتماد محفظة إلكترونية تحت إشراف جهة محايدة تودع فيها العمولة بشكل مؤقت وتصرف فقط بعد إتمام الصفقة رسميًا. كما أرى أهمية رفع الوعي لدى البائعين والمشترين بأهمية التعاقد النظامي، إلى جانب تفعيل تصنيف الوسطاء وتحديد دور “الوسيط الرئيسي” عند وجود أكثر من طرف في الصفقة الواحدة.
النماذج العالمية التي سبقتنا في هذا المجال لم تصل إلى ما هي عليه اليوم إلا بعد أن ربطت بين السعي والإفراغ، وجعلت إتمام الصفقة مشروطًا بتحديد المستحق ووجود عقد موثق. هذه الممارسات تنقل الوساطة العقارية من حيز الاجتهاد إلى إطار المهنية، وتخرج السوق من ضباب الأعراف إلى وضوح الأنظمة.
ختام القول.. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد خلاف على عمولة، بل هو انعكاس لتحول أوسع في بنية السوق العقارية، وانتقالها من مرحلة العفوية إلى مرحلة التنظيم المؤسسي. الطريق إلى الشفافية يبدأ من التوثيق، ويستكمل بالرقابة الذكية، ويترسخ حين تُبنى الممارسات على النظام لا العرف، وعلى الحوكمة لا الاجتهاد. وما دام التنظيم قائمًا والرؤية واضحة، فإن السوق السعودية ماضية نحو مرحلة أكثر احترافية، تثبت فيها أنها جاهزة لمستقبل عقاري نزيه ومنظم، بما يتماشى مع رؤية السعودية 2030 وتوجهاتها نحو الحوكمة والشفافية وتنظيم الأسواق بكفاءة. فالسوق لا تنضج بالقوانين وحدها، بل بالثقة التي تبنيها الأنظمة، والممارسات التي تحترمها العقود.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال