الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع اقتراب موسم الحج من كل عام، تتجه أنظار العالم الإسلامي إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، حيث يتوافد ملايين المسلمين من أكثر من 180 دولة لأداء ركن الإسلام الخامس. وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى الحج بوصفه شعيرة دينية وروحية سامية، إلا أنه يمثل في الوقت نفسه تحدياً إدارياً ضخماً على المستوى اللوجستي والتنظيمي والاقتصادي. ما يحدث خلف الكواليس في هذا الموسم هو نموذج فريد لما يمكن أن تحققه “الحوكمة الرشيدة” عند تطبيقها بكفاءة على مشروع موسمي بهذا الحجم.
تخطيط استراتيجي متعدد المستويات
منذ انطلاق رؤية السعودية 2030 تم تعزيز مفاهيم الحوكمة والإدارة المؤسسية في جميع القطاعات، وكان الحج أحد أبرز مجالات التطبيق. إذ لم تعد إدارة الموسم تقتصر على الجهود الميدانية، بل أصبحت جزءاً من تخطيط استراتيجي وطني طويل الأمد، تشارك فيه أكثر من 40 جهة حكومية وخاصة، تتوزع أدوارها بين الأمن والصحة والنقل والتكنولوجيا والبيئة.
وزارة الحج والعمرة تتولى التنسيق العام، لكنها تعمل جنبًا إلى جنب مع وزارات مثل الداخلية والصحة والنقل وهيئة تطوير مكة والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي “سدايا”، التي أصبحت لاعباً رئيسياً في دعم القرارات عبر أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات.
التقنية كأداة حوكمة
من أبرز مظاهر الحوكمة الحديثة في موسم الحج هو الاستخدام الكثيف للتقنيات الذكية. على سبيل المثال، تطبق الجهات الأمنية نظام “الكاميرات الذكية” لمراقبة الحشود في الوقت الفعلي، كما تستخدم الطائرات بدون طيار لرصد التحركات وتوجيه التدخل عند الحاجة. إلى جانب ذلك تساعد منصة “نسك” الرقمية الحجاج في استخراج التصاريح وتحديد المسارات والخدمات بسهولة، مما يقلل من الازدحام ويزيد من جودة الخدمات المقدمة.
ولم يعد التحول الرقمي مجرد ترف تنظيمي، بل أصبح ضرورة حتمية في إدارة ملايين الأفراد في نطاق زمني وجغرافي محدود. وقد تم في السنوات الأخيرة تقليص وقت التنقل بين المشاعر من ساعات إلى دقائق، بفضل شبكات النقل الذكية مثل قطار المشاعر الذي ينقل أكثر من 300 ألف حاج يومياً خلال ذروة الأداء.
الصحة العامة وإدارة الأزمات
أحد أبرز مظاهر الحوكمة هو نجاح وزارة الصحة السعودية في بناء منظومة طبية متكاملة تعمل بكامل طاقتها خلال الموسم. يتم تجهيز عشرات المستشفيات والمراكز الصحية المؤقتة، مع طواقم طبية يصل عددها إلى 25 ألف شخص، بالإضافة إلى خدمة الإسعاف الجوي والتدخل السريع ومراكز مراقبة الأمراض المعدية.
وقد ظهرت كفاءة هذه الحوكمة بوضوح في موسم حج 1442هـ خلال جائحة كورونا، عندما أُقيمت مناسك الحج في ظروف استثنائية دون تسجيل أي إصابات، في سابقة تاريخية أشاد بها العالم.
الأثر الاقتصادي والتنظيمي
على الجانب الاقتصادي، تسهم حوكمة الحج في تحسين كفاءة الإنفاق العام وزيادة الإيرادات غير النفطية وتنمية قطاعات مثل النقل والسياحة والضيافة والتقنية. وتشير بعض التقارير الرسمية إلى أن عائدات موسم الحج والعمرة في تزايد مستمر على حسب التوجه لرؤية المملكة 2030، مع زيادة متوقعة في عدد الحجاج إلى أكثر من 6 ملايين.
كما أن جودة التنظيم تسهم في تحسين صورة المملكة عالمياً، وتدعم مكانتها في قيادة العمل الإسلامي، وتقديمها كأنموذج للدولة التي تجمع بين العناية بالشعائر وتطوير وتحسين إدارة وحوكمة العموم.
ختامًا
الحج ليس مجرد رحلة روحية، بل تجربة إنسانية ضخمة تُدار بمهارة رفيعة عبر منظومة متكاملة من الحوكمة والتخطيط والرقابة. وقد أثبتت المملكة العربية السعودية، عبر تطوير بنيتها التحتية وتبنيها للتقنيات الحديثة، أنها قادرة على إدارة هذا الحدث الاستثنائي وفقاً لأعلى المعايير العالمية. وهذا الإنجاز لا يُعد مجرد نجاح إداري، بل تجسيداً حياً لرؤية تتطلع إلى المستقبل بكل ثقة واحترافية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال