الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في زمن أصبح فيه إطلاق مشروع أسهل من الحصول على وظيفة، يزداد الحديث عن ريادة الأعمال كطوق نجاة، أو كطريق إجباري لاختراق جدار البطالة والبيروقراطية. في كل مؤتمر أو ملتقى يُعقد عن الريادة، نسمع عبارات مكررة عن الإبداع، والمبادرة، وتحقيق الشغف. يعلو التصفيق كلما تحدّث أحدهم عن قصته مع “الاستقالة من الوظيفة” والانطلاق نحو الحلم. لا أحد يختلف على أن ريادة الأعمال أصبحت مظهرًا من مظاهر النمو الاقتصادي الجديد، وأنها تمثل حلاً ذكيًا لكثير من التحديات. لكن وسط كل هذا الحماس لريادة الأعمال، يُطرح سؤال أكثر واقعية، وأقل مثالية: هل نحتاج حقًا إلى مزيد من رواد الأعمال؟ أم أننا نحتاج أولًا إلى بيئة أعمال مهيأة؟
الواقع يقول إن تأسيس مشروع جديد لم يعد هو العقبة الكبرى، بل التحدي الحقيقي هو كيف تحافظ عليه وتمنحه فرصة للبقاء. فريادة الأعمال ليست فقط فكرة مبتكرة أو متجرًا إلكترونيًا أنيقًا، بل رحلة طويلة تتطلب منظومة متكاملة من التشريعات، والخدمات، والدعم الفني، والحماية القانونية، والتنسيق بين الجهات ذات العلاقة. وفي غياب هذه البيئة، تصبح ريادة الأعمال أشبه بتسلق جبل بأدوات هواة، مهما كانت الشجاعة… احتمال السقوط يبقى كبيرًا.
خذ على سبيل المثال شابًا يملك فكرة تطبيق لتوصيل الطلبات في إحدى المدن المتوسطة. يكتشف بعد أسبوع من إطلاقه أنه يحتاج لتراخيص متعددة من جهات لا تملك بوابة موحدة، ويواجه صعوبة في ربط نظامه مع خدمات الدفع بسبب متطلبات تقنية لم تُشرح له. وحين يبحث عن ممول، يُطلب منه تحليل سوق وخطة خمسية وميزانية دقيقة، بينما لا يجد من يرشده إلى طريقة إعدادها. لا لقصورٍ في رغبته، بل لغياب الأدوات والمعرفة المتاحة.
في هذه الحالة، المشكلة ليست في رائد الأعمال… بل في البيئة التي لم تُهيأ له.
إن البيئة الريادية ليست مجرد مكاتب مشتركة وخدمة إنترنت جيدة. البيئة تعني وجود بنية قانونية مرنة تدعم التجربة والخطأ، وتعني وجود بيانات مفتوحة تسهّل دراسات السوق، وتعني سرعة في الإجراءات لا تقتل الحماس، وتعني تواصلًا بين الجهات الحكومية والخاصة لا يربك المؤسس ولا يتعارض في تعليماته.
تعني أن نفكر كمنظومة، لا كمبادرات متفرقة.
هناك من يعتقد أن كثرة البرامج والمبادرات تعني تحسن البيئة، لكن الحقيقة أن وفرتها لا تعني شيئًا إذا لم تكن متكاملة. الريادة ليست مسابقة يفوز فيها من لديه العرض الأقوى، بل منظومة عمل تسمح للفكرة أن تبدأ، وأن تتطور، وأن تخطئ، ثم تنجح.
ومن اللافت أن بعض المشاريع الواعدة التي تتعثر، لا تفشل لضعف الجدوى أو ضعف المؤسس، بل لأن البيئة حولها كانت مليئة بالتحديات غير المبررة: تأخر في التراخيص، غياب للحماية الفكرية، قلة في الكفاءات البشرية، أو تضارب في صلاحيات الجهات المشرفة.
لهذا، فإن السؤال الجوهري الذي يجب أن نعيد طرحه اليوم هو: هل نوجّه تركيزنا إلى خلق ألف رائد أعمال جديد كل عام؟ أم إلى إصلاح البيئة التي تحتضنهم وتمنحهم فرصة حقيقية للاستمرار؟
الجواب كلاهما. لكن البداية الصحيحة… دائمًا من البيئة.
وكم من فكرة عظيمة وئدت، لا لأنها فشلت… بل لأن البيئة لم تكن مستعدة لها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال