الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين تصبح الشقق الخيار الأول للسعوديين، فذلك لا يعني فقط تغيّرًا في شكل المباني، بل في شكل الحياة نفسها. خلف هذا التحوّل الذي رصدته الأرقام، تقف حكاية صامتة عن ارتفاع التكاليف، وتقلص المساحات، وتغير طموحات الجيل الجديد. فأن تتفوّق الشقق لأول مرة على الفلل في نسب الإشغال، يعني أننا أمام واقع اقتصادي واجتماعي جديد يعيد رسم خريطة السكن في المملكة.
تكشف الأرقام الواردة من نتائج مسح المساكن لعام 2024 عن تحوّل لافت في نمط السكن السعودي؛ فعدد المساكن المشغولة بأسر سعودية بلغ 4.4 ملايين مسكن، بزيادة 233 ألف مسكن عن تعداد 2022، وبمعدل نمو 2.7%. هذا النمو يُظهر أن السعودية ما زالت في سباق متواصل مع احتياجاتها السكنية، لكن الرقم الأبرز في التقرير لم يكن في الكمّ بل في التحوّل النوعي، للمرة الأولى تتجاوز نسبة المساكن من نوع الشقق نظيرتها من الفلل، حيث بلغت الشقق 45%، بينما الفلل 31%.
هذه النسبة تعكس تحوّلًا اجتماعيًا واقتصاديًا في تفضيلات الأسرة السعودية، ليس بدافع الذوق أو القناعة وحدها، بل بفعل الضرورة، وتغيرات السوق، وضغوط التكاليف.
متوسط حجم الأسرة السعودية بلغ 4.9 أفراد، ما يعني أن الأسر السعودية أصبحت تميل تدريجيًا إلى نمط سكني أكثر تركيزًا، خاصة مع أن 69.1% من المساكن لا تتجاوز ثلاث غرف نوم، و57% منها تتكون من 4 إلى 6 غرف فقط. ومع أن أكثر من 44.7% من المساكن تقع ضمن مساحة 150 إلى 299 مترًا مربعًا، فإن هذا التوزيع يوحي أن شريحة كبيرة من السعوديين ما زالوا يقعون ضمن فئة “السكن المتوسط”، بين الحلم والواقع، بين الطموح والاستطاعة. الملفت أن 35.1% من هذه المساكن عمرها يتراوح بين 10 إلى 19 سنة، مما يعني أن نسبة كبيرة من السعوديين يسكنون في وحدات ليست جديدة كليًا، لكنها لم تدخل بعد طور التحديث.
كل هذه المؤشرات تطرح سؤالًا مهمًا، ما المطلوب لتحسين هذه الأرقام؟ وكيف يمكننا أن نرفع من جودة معيشة السعوديين بحيث لا تكون الشقة حلًا اضطراريًا بل خيارًا متكاملًا؟ المطلوب ببساطة هو انتقال من التركيز على “عدد الوحدات” إلى “نوعية الحياة داخل الوحدات”. فالمعادلة الناجحة تبدأ من تحفيز بناء وحدات سكنية متنوعة ومتوسطة التكلفة، تشجع المطورين على تقديم شقق وفلل في متناول الطبقة الوسطى، ضمن مجتمعات سكنية حيوية. ويوازي ذلك توسيع خيارات التمويل المرن للأسر الشابة، مثل التملك التدريجي أو الإيجار المنتهي بالتمليك، مما يخفف الضغط المالي المباشر عليهم.
كما أن خفض تكاليف الأراضي والمرافق عبر طرح المزيد من الأراضي الحكومية داخل المدن، وليس على أطرافها فقط، سيُحدث فارقًا حقيقيًا، خاصة إذا اقترن بتحسين البنية التحتية للمدن، وتطوير وسائل النقل العام، وتكثيف المشاريع الترفيهية والتعليمية والصحية في الأحياء السكنية.
ولا يمكن أن نتجاهل هنا دور تنظيم سوق الإيجارات، ووضع ضوابط توازن بين حقوق المالك والمستأجر، وتمنع التضخم السعري الذي يُجبر البعض على تقليص مساحة سكنهم أو الخروج من الأحياء المركزية. بل إن رفع مستوى الدخل الحقيقي للأسرة السعودية، عبر تحسين الرواتب، وتخفيض تكاليف الصحة والنقل والتعليم، سيساعدها على الانتقال من “سكن الضرورة” إلى “سكن الجودة”.
كل ما سبق لن يكون فاعلًا ما لم يتحول إلى خطة متكاملة تشترك فيها وزارات الإسكان، والشؤون البلدية، والمالية، وقطاع البنوك والمطورين العقاريين، نحو هدف موحّد، أن يكون لكل مواطن سعودي بيتٌ يليق بأحلامه، لا مجرد مأوى يكتفي فيه بالحد الأدنى من الخصوصية والمساحة والراحة. فالسكن هو البداية.. والبداية هي التي تحدد مسار الحياة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال