الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في أحد صباحات الرياض المعتدلة، وقف مدير إحدى الشركات الصناعية الكبرى يتأمل تقريرًا وصل لتوه من إدارة الامتثال البيئي في شركته… التقرير يحوي ملاحظات حول الانبعاثات الكربونية وتجاوزات في معالجة النفايات الصناعية… لم تكن هذه المرة الأولى، لكنه هذه المرة كان يدرك تمام الإدراك أن الوضع سيكون مختلفا هذه المرة… فالقانون قد تغير… والرقابة لم تعد شكلية… والعقوبات لم تعد مجرد تحذيرات…
هذا المشهد الصغير يمثل اليوم واقعًا جديدًا تعيشه الشركات في السعودية، واقعًا تصوغه مجموعة من التشريعات البيئية التي باتت أكثر صرامة وتنفيذًا من أي وقت مضى، ومع رؤية 2030 لم تعد البيئة مسألة هامشية في معادلة التنمية، بل أصبحت جزءًا أصيلًا من الخطط الاقتصادية والاستثمارية، وواحدة من أبرز معايير التقييم للشركات.
في العقود الماضية، كانت التشريعات البيئية في السعودية موجودة لكنها لا تحظى بنفس القدر من الالتزام أو التطبيق كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة، وكان التركيز الأكبر منصبًا على النمو الصناعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وجذب الاستثمارات، لكن مع دخول المملكة مرحلة التحول الوطني، برزت قضايا البيئة كمؤشر حيوي على جدية التنمية المستدامة، وأنشأ المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي، ووضع نظام البيئة الجديد عام 2020، تلاه إصدار لوائح تنظيمية تشمل إدارة النفايات، جودة الهواء، والمياه، وتقييم الأثر البيئي، إن هذا التحول لم يكن من فراغ… فالعالم كله يتجه نحو الحوكمة البيئية والاجتماعية، والمستثمرون الكبار باتوا لا يضخون أموالهم في مشاريع لا تلتزم بالمعايير البيئية، كذلك فإن الاتفاقيات الدولية التي وقعتها المملكة، خاصة اتفاقية باريس للمناخ، دفعت نحو تسريع إصلاح المنظومة البيئية، ومع هذه الطفرة في التشريعات، وُضعت الشركات أمام مسؤولية جديدة، لم تكن مألوفة من قبل؛ فقد أصبحت كل منشأة صناعية أو تجارية، صغيرة كانت أو كبيرة، مطالبة بالحصول على تصاريح بيئية، وإجراء تقييم للأثر البيئي، وتقديم تقارير دورية عن امتثالها، هذا الأمر تطلب من الشركات إنشاء إدارات بيئية مستقلة، واستقدام خبراء ومهندسين بيئيين، بل حتى تخصيص ميزانيات كبيرة لمشاريع تقليل الانبعاثات، وتحسين كفاءة الطاقة، وإدارة النفايات، وبعض الشركات اضطرت إلى إيقاف بعض خطوط الإنتاج مؤقتًا لتعديل أنظمتها، والبعض الآخر تعرض لغرامات أو حتى إغلاق مؤقت؛ ولكن هذا الضغط، رغم كلفته، بدأ يولّد تحولًا داخليًا في ثقافة الأعمال؛ فالشركات بدأت تدرك أن الامتثال البيئي ليس مجرد التزام قانوني، بل هو جزء من سمعتها، من جاذبيتها للاستثمار، ومن قدرتها على التوسع في الأسواق العالمية.
بالطبع، لا تخلو الرحلة من التحديات؛ فالكثير من الشركات، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة، تفتقر إلى المعرفة الكافية بالتشريعات الجديدة، وهناك فجوة في الكوادر البيئية المؤهلة، وصعوبة في مواكبة التغيرات السريعة في اللوائح. كما أن بعض الإجراءات، مثل التراخيص البيئية أو دراسات الأثر البيئي، قد تستغرق وقتًا طويلًا وتعتمد على جهات استشارية معتمدة محدودة العدد، أضف إلى ذلك أن بعض المناطق الصناعية ما زالت تفتقر للبنية التحتية اللازمة للتعامل مع النفايات بشكل آمن، أو لوجود محطات معالجة مياه صناعية فعالة، وهذه التحديات رغم واقعيتها لا تقلل من أهمية المسار المتبع بل تستدعي مزيدًا من التعاون بين القطاعين العام والخاص وتقديم حوافز للشركات الملتزمة وبناء قدرات وطنية متخصصة في البيئة.
ما يميز المرحلة الحالية أن التشريعات البيئية لم تعد تُقدَّم للشركات على أنها قيود، بل باعتبارها بوابة لمزايا استراتيجية… الشركات التي تستثمر في الامتثال، وتدمج الاستدامة في عملياتها، تُمنح فرصًا للوصول إلى التمويل الأخضر، وتُفضل في بعض العقود الحكومية، كما تزداد جاذبيتها للمستثمرين الدوليين؛ فمثلًا إحدى شركات البتروكيماويات السعودية استطاعت الحصول على تمويل دولي منخفض الفائدة فقط لأنها قدمت خطة واضحة لخفض انبعاثاتها بنسبة 40% خلال خمس سنوات. شركة أخرى بدأت تصدّر منتجاتها للأسواق الأوروبية بعد حصولها على شهادة ISO 14001 في الإدارة البيئية، والتي أصبحت شرطًا للدخول في مناقصات دولية، وبينما تتردد بعض الشركات في الاستثمار البيئي بسبب التكاليف، فإن الواقع يُظهر أن الكلفة الأكبر تكمن في تجاهل هذه القوانين، لا في تطبيقها.
اليوم ومع تزايد الحديث عن الحياد الكربوني، والطاقة المتجددة، واقتصاد التدوير لم تعد القضايا البيئية مفصولة عن مستقبل الأعمال؛ فالمملكة التي أعلنت نيتها الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2060، تمضي نحو إعادة تشكيل اقتصادها بشكل يجعل من الشركات المحايدة كربونيًا جزءًا من النسيج الاقتصادي الجديد، وفي هذا السياق ستُعاد صياغة سلاسل التوريد وتُفرض معايير جديدة على الموردين والمصنعين والمشغلين، وسيُمنح الامتياز القانوني والتجاري لمن يحترم البيئة، لا من يتجاوزها.
إن التشريعات البيئية في السعودية اليوم ليست مجرد أدوات قانونية لضبط السوق، بل هي انعكاس لتحول عميق في فلسفة التنمية والشركات الذكية هي التي تدرك أن الامتثال لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية للبقاء والتميز في سوق تنافسية، تتغير فيها القواعد بسرعة.
ما بين مدير الشركة الصناعية الذي بدأ مقالنا بقراره مراجعة كل العمليات الإنتاجية، ومئات الشركات الأخرى التي بدأت في السير نحو الأخضر، هناك مشهد جديد يتشكل في السعودية… مشهد تكتبه القوانين، وتقوده الرؤية، ويصنعه من يملك الشجاعة… ليكون جزءًا من المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال