الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتكرر مشهد إهدار الطعام يوميًا، حيث تُتلف آلاف الأطنان من الأغذية دون استفادة، في صورة باتت تعكس جانبًا مؤلمًا من واقع الاستهلاك الأسري والتجاري في المملكة العربية السعودية. ولم يعد هذا الهدر مجرد سلوك فردي عابر، بل تحوّل إلى معضلة تنموية تمس جوهر كفاءة السياسات العامة، وتُلقي بظلالها على الأمن الغذائي والاستدامة البيئية في آنٍ معًا.
ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والتحديات البيئية، تبرز الحاجة إلى مقاربة أعمق وأشمل، تتجاوز المعالجات السلوكية والتوعوية، نحو تدخلات تشريعية ومؤسسية تُرسّخ كفاءة استخدام الموارد، وتحمي النعم، وتدفع بمفاهيم الاستدامة من دائرة الخطاب إلى ميدان التطبيق الفعلي.
تشير التقديرات الرسمية إلى أن المملكة تهدر ما يقارب 30% من الغذاء المنتج محليًا سنويًا، بقيمة تفوق 49 مليار ريال، وهي قيمة تتجاوز ما يُخصص سنويًا لدعم بعض السلع الغذائية الأساسية. ووفقًا لدراسة “خط الأساس للفقد والهدر الغذائي” (2019م) الصادرة عن المؤسسة العامة للحبوب، قُدّر حجم الهدر السنوي بنحو 4.066 مليون طن، منها 1.736 مليون طن في مرحلة الاستهلاك. ولا تقف دلالة هذه الأرقام على البُعد المالي وحده، بل تتسع لتشمل أثرًا بيئيًا بالغًا، إذ تُعد المخلفات الغذائية من أبرز مصادر انبعاث غاز الميثان، أحد أبرز مسببات الاحتباس الحراري. وقدرت منظمة الأغذية والزراعة أن الهدر الغذائي يُشكّل – لو اعتُبر دولة – ثالث أكبر مصدر لانبعاثات الغازات عالميًا.
استشعارًا لهذا الخلل، تقدم كل من الأستاذة هدى الحليسي وكاتب هذا المقال – إبان عضويتهما في مجلس الشورى – بمقترح تشريع وطني متكامل للحد من الهدر الغذائي، يهدف إلى بناء منظومة تشريعية تشمل سياسات وقائية، وحوافز تشجيعية، وغرامات رادعة، وآليات فعالة لإعادة توزيع الفائض الغذائي بصورة منظمة وآمنة، مع توفير الحماية القانونية لجميع الأطراف. وقد تبنّت اللجنة المختصة المقترح، ووافق المجلس على ملاءمة دراسته، إلا أن الإفادات الحكومية جاءت متفاوتة بين مؤيد ومتحفظ، مما أدى إلى عدم استكمال اللجنة دراسته ووأد المقترح في مهده. ورغم تعثره آنذاك، بفعل التباين في الإفادات الحكومية، فإن بروز الهيئة العامة للأمن الغذائي بوصفها الجهة المختصة والمنوط بها هذا الملف، يمثل فرصة مؤسسية وتشريعية لإعادة إحياء المقترح على أسس أكثر نضجًا وتناغمًا مع الرؤية الوطنية.
وفي ظل هذا التعثر، تواصلت مظاهر الهدر في الحياة اليومية دون غطاء نظامي يحاصر الظاهرة أو يضبطها، كما تؤكده الدراسات الميدانية. إذ كشفت دراسات أن الممارسات اليومية في المنازل والمطاعم والأسواق تسهم بشكل كبير في ارتفاع نسب الهدر، لا سيما في سلع مدعومة وأساسية كالأرز والخبز. كما أظهرت دراسة ميدانية أجرتها جمعية “إطعام” بالتعاون مع جامعة الملك سعود عام 2022م أن أكثر من 80% من منشآت تقديم الطعام تبدي رغبة في التعاون مع الجهات الخيرية، لكنها لا تزال تفتقر إلى مظلة تشريعية توفر لها الحماية القانونية وتُمكّنها من التبرع الآمن والمنتظم.
وبرغم ما تبذله الجمعيات الخيرية من مبادرات نوعية – كـ “إطعام” و”بنك الطعام” و”اعتدال” – لجمع الفائض الغذائي وتوزيعه، فإن تلك الجهود، رغم فاعليتها، ما زالت تصطدم بعقبات قانونية وتنظيمية تعيق توسيع نطاقها واستدامتها، وهو ما يبرز الحاجة إلى إطار تشريعي داعم، يُوفّر الأمان القانوني، ويُعزز استدامة التمكين المؤسسي لتلك المبادرات.
كما أن الجهود الحكومية، رغم تعددها، ما تزال تفتقر إلى التوحيد ضمن مظلة تنظيمية شاملة. ومن أبرز تلك الجهات: وزارة البيئة والمياه والزراعة، الهيئة العامة للغذاء والدواء، وزارة البلديات والإسكان، والهيئة العامة للأمن الغذائي. وقد أسند تنظيم الهيئة العامة للأمن الغذائي، الصادر حديثاً بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (849) بتاريخ 1446/11/29هـ، اختصاص الحد من الفقد والهدر الغذائي، مع تعزيز صلاحياتها في هذا الشأن بصورة موسعة.
ويمثل هذا التنظيم الجديد للهيئة فرصة سانحة لتفعيل تلك الاختصاصات على نحو مؤسسي وتشريعي متكامل. إذ منحها صلاحيات تشمل: رصد مستويات الفقد والهدر الغذائي، وضع السياسات والخطط، تفعيل برامج الإنذار المبكر، إدارة السلع الغذائية الاستراتيجية، اقتراح الأنظمة ذات الصلة، والربط الإلكتروني مع الجهات المعنية. ويُشكّل تفعيل هذه الصلاحيات مرتكزًا جوهريًا لأي جهد وطني يُراد له أن يحوّل الهدر من أزمة مزمنة إلى مورد يعزز الأمن الغذائي والاستدامة.
ولإدارة هذا الملف بكفاءة وتوزيع الأدوار الرقابية بدقة، من المهم التمييز بين “الفقد الغذائي” – الذي يقع في مراحل ما قبل الاستهلاك – و“الهدر الغذائي” الذي يحدث في مراحل ما بعد الإنتاج، لا سيما أثناء التخزين أو التوزيع أو الاستهلاك.
وفي ظل تنامي هذه التحديات محليًا، يمكن الاستفادة من التجارب الدولية التي أظهرت أثرًا ملموسًا في معالجة الهدر الغذائي. وتُعد تشريعات “استرداد الطعام” في فرنسا وإيطاليا مثالًا ملهمًا، إذ تُلزم المتاجر الكبرى بالتبرع بالفائض الغذائي عوضًا عن التخلص منه، وتوفر حماية قانونية للجهات المانحة. أما المملكة المتحدة، فقد أدرجت هدف تقليص الفاقد ضمن استراتيجيتها البيئية، وألزمت المنشآت التجارية بإعادة توزيع الطعام الصالح كخيار أول، مع دعم رقمي للمنصات التي توثق الكميات وتوجّهها للجهات المستفيدة. وتُظهر هذه التجارب أن وجود إطار تشريعي، سواء كان تحفيزيًا أو إلزاميًا، يشكّل مفتاحًا لتحويل فائض الطعام من عبء بيئي إلى فرصة إنسانية وتنموية.
وتتضح أهمية هذا التحول من خلال البيانات الاقتصادية، حيث أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2021م) إلى أن تقليص الهدر بنسبة 25% فقط كفيل بتوفير غذاء يكفي نحو 870 مليون شخص سنويًا. وفي المملكة، التي تعتمد على استيراد جزء كبير من احتياجاتها الغذائية، فإن خفض الفاقد لا يمثل خيارًا اقتصاديًا فقط، بل يُعد كذلك ضرورة استراتيجية لتعزيز الأمن الغذائي وتقليل الهدر المالي وتحسين كفاءة سلاسل الإمداد.
ولأن الأمن الغذائي ركيزة للاستقرار والسيادة، فإن أي جهد لمعالجة الهدر لا يكتمل دون إطار تنظيمي ونظامي يُفعّل الصلاحيات، ويوجه الموارد، ويحفز المجتمع نحو مسؤولية جماعية. لم يعد الهدر الغذائي مسألة رفاه أو ترف، بل صار مؤشرًا على كفاءة الدولة والمجتمع معًا في التعامل مع مواردها. وهذا ما يفرض تحولًا نوعيًا في المقاربة من التوعية إلى التشريع، ومن النوايا الحسنة إلى الأطر الملزمة.
ختامًا، فإن الأمن الغذائي لم يعد مجرد هدف اقتصادي مرحلي، بل غدا ركيزة من ركائز السيادة الوطنية، ومؤشرًا على نضج السياسات العامة وكفاءتها. ومن هنا، فإن إصدار تشريع وطني شامل للحد من الهدر الغذائي لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة تنموية وأمنية واقتصادية، تتسق مع مستهدفات رؤية 2030 في تعظيم كفاءة الإنفاق، وتعزيز الوعي المجتمعي، وتحقيق الاستدامة في سلاسل الإمداد الغذائي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال