الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل موسم حج، تعمّ الأجواء نفحاتٌ من الإيمان، وتتجه القلوب قبل الأجساد نحو مكة. لكن وراء شغف “لبيك اللهم لبيك” يختبئ مشهد مختلف، آلافٌ يعبرون حدود التنظيم دون تصريح، كأنهم يمرون بخطٍّ فاصل بين النظام والرغبة، بين المسموح والممنوع. هذا المشهد يتكرر كل عام، حيث يلجأ البعض لأداء نسكهم خارج الإطار الرسمي، متجاهلين الإجراءات والضوابط، مدفوعين برغبة جامحة في بلوغ البيت الحرام، ويتركون خلفهم أثرًا اقتصاديًا واجتماعيًا وتنظيميًا لا يمكن إغفاله.
تشير تقديرات وزارة الحج وايضا الأمن العام إلى أنّ عددَ الحجاج الذين يدخلون المشاعر المقدسة دون تصريح قد يصل سنويًا إلى 150 ألف حاج، وفي بعض السنوات تجاوز الرقم 200 ألف. هذا الإقبال غير المرصود يُشكّل ضغطًا هائلًا على خدمات الصحة والنقل والإسكان والتموين، إضافة إلى المعنيين بالأمن والمرور.
فعندما لا يُدرج هؤلاء الحجاج في خطط الاستيعاب المسبقة، تنهار ميزانيات التشغيل، وتُفاجأ الحملات النظامية بأعدادٍ زائدة، فتُجبر على تجهيز خيام إضافية وتوفير وجبات طعام إضافية في اللحظات الأخيرة. أما منشآت الرعاية الصحية في المشاعر، فتضطر لاستقبال مرضى يُفترض أن يجروا فحوصاتهم الطبية ويتلقوا تطعيماتهم في الوقت المناسب، فترتفع كلفة الرعاية الطبية في ظل حرارة الصيف الحارقة، ويزداد العبء على الأطقم الطبية وإنْ تحت ضغط الموارد المحدودة.
تتضخم الأرقام عند الحساب الدقيق، فكلّ حاج مخالف يُكلّف الدولة ما بين 3 إلى 5 الاف ريال، من خدمات صحية وأمنية وإعاشة لا تُسجّل ضمن موازنة النفقات المقررة سلفًا. وعندما نضرب هذا المتوسط في 150 ألف حاج مخالف، نجد أنفسنا أمام خسائر مباشرة تُقدّر بين 600 و750 مليون ريال سنويًا، دون احتساب الخسائر غير المباشرة من إرباك خطط الطوارئ وتراجع جودة الخدمات للحجاج النظاميين، واستهلاك المرافق العامة بشكل يفوق طاقتها.
ولا تتوقف الخسائر عند البعد المالي فقط، بل تمتدّ إلى الجانب الاجتماعي. فالحاج النظامي الذي انتظر سنوات للحصول على فرصته في المنصة الإلكترونية يشعر بالغبن عندما يرى آخرين يتسللون بلا تصريح أو التزام، فيما هو التزم بالنظام وانتظر دوره. كذلك قد لا يخضع الحاج المخالف لبرامج التوعية والإرشاد نفسها، وهو ما يزيد من المخاطر الصحية، ويعرض حياته وحياة من حوله للخطر؛ فقد يلجأ بعضهم للنوم في أماكن غير مخصصة، أو يفتقرون لوسائل التبريد والراحة، فتُصبح التحديات أكبر وتزداد أعباء الجهات الصحية والإغاثية.
في ظل هذا التعقيد، تصبح الحاجة إلى حلول عملية وفاعلة أفضل من الكلام عن العقوبات وحدها. أولى هذه الخطوات تتمثل في رفع وعي المجتمع بخطورة هذا السلوك، ليس فقط من الناحية الشرعية وإنما أيضًا من الناحية الاقتصادية والتنظيمية. فمن يلمّ حقيقة الأرقام، كيف يُكلّف الحاج المخالف الدولة آلاف الريالات، وكيف يُربك خطط الحملات النظامية، يصبح أكثر قبولًا للالتزام ويُدرك أن الانضباط لا يتعارض مع الرغبة في أداء الفريضة.
ثم تأتي ضرورة توسيع فرص التصريح النظامي لمن تتوافر فيهم الشروط، عبر تبنّي آليات منصفة وشفافة في منصة التسجيل، وتخصيص حصة أكبر للفئات ذات الدخل المحدود. على سبيل المثال، يمكن خفض أو دعم رسوم كنف ذوي الدخل المنخفض بالتعاون بين وزارة الحج وصندوق الضمان الاجتماعي، لضمان ألا يكون المال حاجزًا أمام أداء النسك. وبالتوازي، لا بد من تفعيل الدور المجتمعي والرقابي؛ إذ يمكن للمواطنين والمقيمين الإبلاغ عن حملات وهمية أو محاولات تسلل، مع منح مكافآت تشجيعية لمن يساهم في ضبط المخالفين.
ولا يقلُّ الدور التقني أهمية، فالآن بات بالإمكان تركيب بوابات ذكية وسياج أمني إلكتروني متكامل حول نطاق المشاعر المقدسة، يرتبط مباشرة بتصريح الحج المُشفّر على الهوية الوطنية أو إقامة الزائر. تمامًا كما في المطارات، يُقرأ التصريح إلكترونيًا عند بوابات منى ومزدلفة وعرفات، فلا يُسمح بالدخول إلا لحامل التصريح الرسمي. هذا الإجراء لا يخفف الضغط على رجال الأمن ويقلل الأخطاء البشرية، بل يردع أيضًا من يخططون للتسلل، إذ يعلمون أن البوابة ستقف أمامهم قبل أن يخطو خطوة.
لكي تكون الحلول مستدامة، لا بد من الاستفادة من دروس المواسم السابقة وتحليل بيانات المخالفين لمعرفة مناطق التسرب وأساليب الترويج للحملات غير النظامية، فتصمم الجهات المعنية حملات تحذيرية واستباقية، استعدادًا لمواجهة الأساليب الجديدة. وتتولى هيئة تطوير مكة والمشاعر المقدسة ووزارة الداخلية والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) العمل معًا في هذا الجانب، إلى جانب دعم صندوق التنمية الوطني لمشاريع التقنية والبنية التحتية الذكية.
في المحصلة، فإن الحج لا يُقاس فقط بعدد الخطوات التي تُقطع، بل بقدر الالتزام الذي يُظهره الحاج تجاه قدسية الزمان والمكان والنظام. فكما أن النية الصادقة أساس، فإن احترام الأنظمة جزء من تمام العبادة. إلا أن الواقع يكشف أن بعض شركات ومؤسسات الطوافة، لحجاج الداخل والخارج، قد تُغريها العوائد المادية، فتتساهل وتسمح بدخول الحجاج غير النظاميين إلى مخيماتها مقابل مبالغ مالية، مما يزيد العبء ويُربك التنظيم.
ولهذا تبرز الحاجة إلى رقابة مشددة على مداخل المخيمات، وتكليف أشخاص محل ثقة بالإشراف عليها، بل وتفعيل بوابات إلكترونية مشابهة لما هو معمول به في المطارات، لضمان عدم دخول إلا من يحمل تصريحًا رسميًا. وعندما نعيد تعريف الطاعة بأنها التزام جماعي بالمسؤولية، يصبح الحج رحلة إيمانية منظمة، يعيش فيها الجميع السكينة والطمأنينة. ومع تكامل الأدوار بين الجهات المعنية، وتنامي الوعي المجتمعي، وابتكار الحلول التقنية، يمكننا أن نرسم مستقبلًا لحجٍ أكثر أمنًا وتنظيمًا وعدالة، يحفظ قدسية الشعيرة ويصون كرامة الإنسان.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال