الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في الوقت الذي تتوسع فيه منظومة القضاء في المملكة العربية السعودية لتواكب تنوع القضايا المتخصصة، يبقى ملف الخبرة القضائية موضع للبحث والتباحث، لاسيما في القضايا ذات الطبيعة الفنية أو الإبداعية، وفي مقدمتها نزاعات حقوق المؤلف.
فمثل هذه الدعاوى لا يُمكن اختزالها في تقديرات محاسبية بحتة، إذ غالبًا ما يكون الضرر فيها معنويًا، يمس مكانة المؤلف وسمعته وأثره المهني، وهو ما يصعب تقييمه بالأرقام وحدها.
ورغم أهمية “منصة الخبرة القضائية” كأداة تنظيمية، إلا أن تصنيف الخبراء المسجلين فيها ما زال محصورًا في التخصصات المالية والهندسية، ما يُحدث فجوة كبيرة أمام القضاء في فهم السياق الإبداعي وتقدير الضرر تقديرًا عادلًا.
ومع تسارع نمو الصناعات الإبداعية والرقمية، يزداد هذا التحدي إلحاحًا، ويفرض سؤالًا ملحًا: هل تملك منصة الخبرة القضائية الكفاءة النوعية لتقدير الأضرار في قضايا حقوق المؤلف؟
الإبداع ليس رقمًا… بل قيمة تقديرية
في القضايا التي تمس حقوق المؤلف، لا تُقاس الأضرار كما تُقاس في المنازعات المالية أو العقارية، إذ أن التعدي هنا ينال من جوهرٍ غير ملموس: قيمة العمل الفني، حضوره في المشهد الإبداعي، وارتباطه باسم صاحبه وسمعته. فحين يُنشر عمل أدبي أو بصري دون إذن، أو تُستغل مقطوعة موسيقية في إعلان تجاري دون نسبٍتها لمؤلفها، أو يُعاد إنتاج المحتوى الإبداعي بأدوات تجارية دون رخصة من صاحبها، فإن الضرر يتجاوز الخسارة المالية المباشرة إلى تقويض الثقة في نظام الحماية القانونية ذاته، وتشويه المسيرة الإبداعية لصاحب الحق.
ولما كانت هذه الأضرار عصية على القياس المحاسبي التقليدي، فإن معالجتها القضائية تتطلب خبرة نوعية تنبثق من داخل السياق الفني لا من خارجه، لتقدير حجم الضرر تقديرًا يعكس حقيقته الجوهرية لا صورته المالية. فالعين المحاسبية، مهما بلغت دقتها، تظل عاجزة عن الإحاطة بالقيمة التي لا تُقاس بالأرقام.
ومن هذا المنطلق، فإن غياب الخبرة النوعية في تقدير هذه الأضرار لا يُضعف فقط الأسس الموضوعية للأحكام القضائية، بل يُنتج أثرًا مضاعفًا ينعكس على الاقتصاد الإبداعي، أو ما يُعرف بالاقتصاد البرتقالي، الذي يُعد من روافد التنمية الثقافية والاقتصادية. إذ أن تراجع ثقة المبدعين في فاعلية الحماية القضائية لحقوقهم يُثنيهم عن الإنتاج، ويُضعف الحوافز للاستثمار في الصناعات الإبداعية، ما يُعرقل نمو هذا القطاع الحيوي الذي تراهن عليه المملكة ضمن مستهدفات رؤية 2030.
منصة الخبرة وعلاقتها بالاقتصاد البرتقالي … قراءة في الوضع الراهن لقضايا الملكية الفكرية
في ضوء هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى مراجعة البنية الحالية لـ “منصة الخبرة القضائية”، التي أُنشئت كأداة تنظيمية لتيسير استعانة القضاة بالخبراء. فعلى الرغم من كونها خطوة متقدمة في تسريع التقاضي وضبط الاختيار، إلا أن خارطة التخصصات فيها لا تزال تُدار بذهنية تقليدية تُركّز على الخبرات المحاسبية والهندسية، فيما تُقصي التخصصات الإبداعية.
وهنا تبرز المفارقة: أن يُبتّ في نزاع حول عملٍ فنيٍّ بتقرير صادر من خبير لا يعرف طبيعة العمل، ولا خلفيته، ولا معايير تقييمه داخل مجتمعه المهني. هذا القصور يؤدي إلى مفارقة خطيرة: أن يُبتّ في قضايا إبداعية بتقارير خبرة لا تعي أساسًا لغة الإبداع، ولا تُدرك معاييره، ولا تملك أدوات قياسه.
ما المقصود بالخبير اصلًا؟
يعتمد النظام القضائي على تعريف وظيفي للخبير: من يملك مؤهلًا فنيًا أو مهنيًا لتقديم الرأي في مسألة متخصصة. لكن عندما تكون المسألة ذات طابع فني إبداعي صرف، فإن هذا التعريف بحاجة لإعادة نظر.
تلك الاشتراطات التي تشكل المفهوم القضائي للخبير، تعارض الوصف الحقيقي للعمل الفني أيًا كانت ماهيته، لا يمكننا أن نقصي رسام قضى ربع قرن من الممارسة من وصفه بالخبير لأنه لا يملك مؤهلًا أكاديمي يعطيه المكنة القانونية بأن يبدي تقديراته الفنية في معضلة فنية أصبحت محل نزاع قضائي.
ولذلك فإن الخبرة في الحالة الفنية هي خبرة الفنان بوصفه ممارس لهذه الحرفة، لا يمكن قيدها بمؤهل أكاديمي، ولكن يمكن قيدها بمعايير قياسية لتقدير درجته بوصفه خبير ومتى يمكن إسباغه بسبغة الخبير القضائي.
ومن هنا، تكمن أهمية إعادة التعريف بفهم طبيعة الحِرف وطبيعة ممارسيها. فأعمال المؤلفين — من النصوص الأدبية، إلى الموسيقى، إلى المحتوى الرقمي — تتطلب معرفة سياقية وتقديرًا نوعيًا لطبيعة الضرر، خصوصًا حين لا يكون الضرر ماديًا مباشرًا، بل معنويًا أو رمزيًا أو استباقيًا (مثل ضياع فرص النشر أو التعاقد)
فمن الذي يستطيع مثلًا تقدير القيمة السوقية المحتملة لعمل لم يُطرح بعد؟ أو قياس الضرر الذي أحدثه تشويه متعمد لمحتوى ثقافي؟ مثل هذه التقديرات لا تصدر عن أهل المالية، بل عن أهل المجال.
الإشكاليات العملية في مسار التقاضي
إن غياب الخبرة الفنية المتخصصة في عدد من القضايا، لا سيما تلك المرتبطة بالتعويضات، ألقى بثقله على جودة مخرجات القضاء، إذ وُضع القاضي في مواجهة التصدي لتقدير الأضرار وتعويضها دون سند فني يُعينه، أو مرجعية متخصصة تُرشده، وفي المقابل لا يمكنه الامتناع عن نظر الدعوى والحكم فيها للفصل في النزاع الماثل أمامه، التزامًا منه بمبدأ الفصل في الخصومات، ودرءًا لشبهة إنكار العدالة، وإن لم يكن امتناعه مُجرَّمًا صراحة في النظام السعودي، إلا أنه من الضمانات القضائية.
وحيث إن الأصل في القضاء أن يُبنى على أسس متينة من الفهم القانوني والفني لطبيعة النزاع، فإن غياب بيوت الخبرة الفنية في المجالات النوعية كحقوق المؤلف، والتصميم والإنتاج الإبداعي، أدى إلى اعتماد الأحكام القضائية على السلطة التقديرية، وهو ما يُفضي إلى تعويضات لا تُجسّد حجم الضرر، ولا تحقق مقاصد الردع والإنصاف.
وإذ تُعد هذه المآلات أحد أوجه القصور المؤسسي، فإن استمرارها من شأنه إضعاف ثقة أصحاب الحقوق الإبداعية بالمنصة القضائية، كما يُرسخ – بمفهوم المخالفة – فكرة الإباحةً الضمنية للتعدي، طالما أن التعويض لا يوازي الأثر، ولا يُعيد لصاحب الحق سلطته على مؤلفاته.
إعادة تعريف الخبرة القضائية: من التنظيم إلى التخصص
من المؤكد أن منصة الخبرة تمثل نقلة مهمة في ضبط إجراءات التقاضي، إلا أن تطويرها يتطلب الانتقال من مجرد الإدارة الإلكترونية، إلى تبنّي منظور جديد للخبرة نفسها، مبني على تنوع الاختصاصات ومرونة الوصول للخبراء الملائمين.
وهذا يستلزم:
1- فتح باب التسجيل أمام أصحاب الخبرات الفنية والإبداعية المعتمدة.
2- تمكين القضاة من الاستعانة بخبراء من خارج المنصة في الحالات المتخصصة.
3- التعاون بين وزارة الثقافة وهيئاتها والجمعيات الفنية الخاصة وهيئة الإعلام ووزارة الموارد البشرية والهيئة السعودية للمقيّمين المعتمدين وبيوت الفن والفنانين؛ لبناء قواعد ومعايير التسجيل للمبدعين بوصفهم خبراء قضائيين لتقديم الرأي الفني بشأن النزاعات المشمولة بالحماية القانونية لحقوق المؤلف.
4- تطوير برامج تدريبية للقضاة لفهم طبيعة الأضرار غير التقليدية ومعايير تقييمها.
خاتمة، القضاء يحتاج إلى لغة جديدة … العدالة لا تكتمل بدون فهم الإبداع
حين يُنظر إلى الإبداع كرقم فقط، تُختزل العدالة في حساب لا يُنصف. ولأن القضايا المتعلقة بحقوق المؤلف تمس قيمة معنوية ومكانة ثقافية، فهي بحاجة إلى لغة قضائية جديدة، تُدرك اختلاف هذه النزاعات عن غيرها، وتُراعي حساسيتها.
ولأجل ذلك تحتاج منظومة الخبرة القضائية بناء جديد لا يتوقف عند تحسين الإجراءات، بل يبدأ من الاعتراف بأن طبيعة النزاع تحدد طبيعة الخبير، وأن حماية حقوق المؤلف تتطلب أدوات قضائية تستوعب روح الفن، لا فقط هيكل النظام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال