الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كتابه “الجينوم“، يوضح مات ريدلي أن خلاصة الدراسات المتعلقة بالذكاء تشير إلى أن حوالي نصف الذكاء موروث، بينما يعود أقل من خمسه إلى البيئة المشتركة مع الأشقاء، أي الأسرة. أما النسبة المتبقية فتتأثر بالرحم والمدرسة والعوامل الخارجية مثل الأقران. لكن هذه النتائج ليست دقيقة تمامًا؛ فمعدل الذكاء لا يتغير مع العمر فحسب، بل تتغير أيضًا درجة تأثره بالعوامل الوراثية. فكلما تقدم الإنسان في السن وتراكمت خبراته، تزداد قوة تأثير جيناته. على سبيل المثال، تبلغ نسبة الذكاء الموروث في الطفولة 45%، بينما ترتفع إلى 75% في أواخر المراهقة. ومع التقدم في العمر، يبدأ الفرد في إظهار ذكائه الفطري تدريجيًّا، ويتحرر من التأثيرات الخارجية التي تشكله. فهو يختار البيئة التي تناسب ميوله الموروثة بدلًا من تغيير تلك الميول لتتلاءم مع الظروف المحيطة. لكن هذا لا يعني أن الوراثة قدرٌ ثابت لا يتغير، فالعلم ما زال في بداية رحلته لفهم أسرار الذكاء البشري.
من الناحية النفسية التحليلية، حدد عالم النفس هوارد جاردنر ثمانية أنواع من الذكاء في نظريته “الذكاءات المتعددة“، وهي الذكاء اللغوي الذي يعبر عن القدرة على استخدام الكلمات بفعالية في الكتابة والخطابة، والذكاء المنطقي–الرياضي الذي يتجلى في القدرة على التفكير الاستدلالي وحل المشكلات المجردة، والذكاء المكاني الذي يتمثل في إدراك العلاقات البصرية وتخيل الأماكن كما يظهر لدى المهندسين والفنانين، والذكاء الجسدي–الحركي الذي يعبر عن التحكم الدقيق في الحركات البدنية مثلما يفعل الرياضيون والجراحون، والذكاء الموسيقي الذي يتعلق بتمييز النغمات والإيقاعات وتأليف الموسيقى، والذكاء الاجتماعي الذي يعني فهم مشاعر الآخرين والتواصل معهم كما هو الحال لدى القادة والمعلمين، والذكاء الذاتي الذي يرتبط بفهم النفس وتوجيه السلوك بناءً على المشاعر الداخلية، وأخيرًا الذكاء الطبيعي الذي يتجلى في فهم الأنظمة البيئية والكائنات الحية كما يفعل علماء الأحياء.
الذكاء العاطفي وهو مايمكن اعتباره مزيجاً بين الذكاء الاجتماعي والذاتي لدى جاردنر، فيشمل الوعي بالذات، وإدارة المشاعر، والتحكم في الانفعالات السلبية مثل الغضب والقلق، بالإضافة إلى التعاطف والمهارات الاجتماعية التي تساعد في بناء العلاقات وحل النزاعات. ويُعد الذكاء العاطفي أكثر أهمية من الذكاء الأكاديمي في تحقيق النجاح الوظيفي والعلاقات الشخصية، ويمكن تنميته عبر التدريب والتأمل والتعلّم من التجارب. ورغم أن جاردنر لم يخصص كتابًا عن الذكاء الاجتماعي، إلا أنه تناوله في مؤلفات مثل “أطر العقل” و“العقول الخمسة للمستقبل“. فالذكاء الاجتماعي هو القدرة على فهم الآخرين والتواصل معهم بفعالية، ويشمل قراءة لغة الجسد وتفسير نبرات الصوت وإدارة الحوارات.
على جانب آخر يقدم دانييل جولمان في كتابيه “الذكاء العاطفي” و“الذكاء الاجتماعي” مفهومين متكاملين يعيدان تعريف الذكاء، حيث يتجاوزان الذكاء الأكاديمي التقليدي ليُبرزا أدوات أعمق تُشكّل نجاح الإنسان وسعادته. في “الذكاء العاطفي“، يركّز جولمان على قدرة الفرد على التعرف على مشاعره ومشاعر الآخرين، وإدارتها بفعالية لتعزيز العلاقات واتخاذ القرارات. ويُجادل بأن الذكاء العاطفي قد يفوق في أهميته الذكاء المعرفي عندما يتعلق الأمر بالنجاح المهني أو التوازن النفسي. أما في “الذكاء الاجتماعي“، فينتقل جولمان من التركيز على العالم الداخلي إلى التفاعلات مع المحيط، موضحًا كيف تُشكّل العلاقات الدماغَ والمشاعر. وفي نظري – المتواضع – أن الذكاء الاجتماعي هو ساقية من سواقي الذكاء العاطفي ولايمكن فصله عنه. في مجال القيادة يرى جاردنر أن بعض أنواع الذكاء تبرز كأكثر أهمية، مثل الذكاء الاجتماعي لفهم الموظفين وتحفيزهم، والذكاء العاطفي للتحكم في الانفعالات وقراءة مشاعر الفريق، والذكاء الاستراتيجي لاتخاذ القرارات طويلة المدى وتحليل المخاطر، والذكاء اللغوي للإقناع والتواصل الفعال. كما تتطلب القيادة الناجحة مهارات مكملة مثل حل المشكلات المعقدة، والمرونة المعرفية، والذكاء الثقافي.
في التراث العربي ، وباستقراء سمات القادة وسماتهم يمكن تلخيص صفات القائد الذكي في مفردات عربية مثل الفطنة، والدهاء، والحنكة، والفراسة، والكياسة ، والتي تلعب جميعها دورًا حيويًّا في القيادة الفعّالة. فالقائد الفطن يتميز بقدرته على تحليل المواقف بسرعة، واتخاذ قرارات مدروسة بناءً على قراءة الواقع. وتبرز أهمية هذه الصفات في التكيّف مع التغيير، حيث يُظهر القادة الأذكياء مرونة في التعامل مع التحديات، مثل تحويل الأزمات إلى فرص. كما أنهم يستبقون المشكلات ويشكلون رؤى استراتيجية واضحة، ويعرفون كيف يوجّهون رسائلهم لتلائم جمهورهم. وفي إدارة الأزمات، تظهر حنكة القائد في تحديد الأولويات وتمييز الأعراض عن الأسباب الجذرية. والأهم من ذلك، يدرك القادة الأذكياء أن الذكاء ليس سمة ثابتة، بل يحتاج إلى تطوير مستمر عبر التعلّم من التجارب والآخرين.
في الختام، يُعد الذكاء مزيجًا من القدرات التحليلية والعاطفية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل القيادة ليست إدارة روتينية مجردة، بل مصدر إلهام، يترك صاحبها أثرًا مستدامًا في عمله، ويورث انموذج قدوة للقادة من بعده.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال