الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قد يخطر في بالك الآن أنني سأقدم رقمًا صادمًا أو تصريحًا رسميًا أو ربما خطأ ترويجي حدث في إحدى لوحات التايم سكوير، لكن الحقيقة أبسط من ذلك. ليست لدي مشكلة مع الزائر الأمريكي، ولا أقول أنه سيء، لكن أقول ببساطة هو ليس في الطريق ولا أنت على خارطة خياراته.
هذا ليس رأيًا طارئًا، وحتمًا ليس قانونًا كونينًا، لكن المدن التي تبعُد عن الزائر مسافة جغرافية وثقافية واقتصادية، غالبًا ما تكون خارج دائرة الرغبة لديه. ليس لأنها لا تستحق، لكنّها لم تظهر له في فيلم، لم يزرها صديقه، لذلك هي لا تزال بعيدة في صدى قراراته القادمة.
وهنا نتحدث عن فجوة عملية، عن تكلفة الحضور في سوق بعيد، عن إعلان واحد يُكلّف أضعاف ما يُنفق في حملات كاملة، عن زائر لن يثق بك إلا بعد سنوات من التكرار ثم يأتي مرة واحدة ويكتفي. عن خطوط طيران غير مباشرة، عن منافسة شرسة مع مدن اعتادها، وفنادق جرّبها بأسعار ربما لا يمكن أن تجاريها.
في المقابل، هناك زائر آخر، أقرب وأسهل، وأعلى احتمالًا للعودة، لا يحتاج أن تعرّف به نفسك من الصفر لأنك حاضر ولو جزئيًا في وعيه. كل الأرقام تقول أن الزائر القريب يكلّف أقل، يعود أكثر، وينفق ضمن نطاق يفيد الاقتصاد المحلي. ولهذا بالضبط يأتي التفكير السياحي من سؤال، من أين يفترض أن يأتي زوّارك؟ من أقرب مدينة؟ الجواب هنا يغيّر الميزانية والخطاب وأحيانًا حتى معنى النجاح الذي تطارده.
سوق المنشأ، Source Market لمن لم يتعامل مع التخطيط السياحي عن قرب، هو أكثر المفاهيم منطقًا في شرح من أين يجب أن يأتي الزائر الذي يستحق أن تُصمم من أجله حملتك، وأن تُعيد ترتيب مواسمك بناءً على إجازاته، وأن تضع أسعارك بما يتناسب مع قدرته الشرائية. ولذلك، تُعرّف منظمة السياحة العالمية سوق المنشأ بأنه :”الدول أو المناطق التي ينتمي إليها الزوار الدوليون المغادرون، والتي تُعدّ مرجعًا أساسيًا لفهم تدفق السياحة الدولية، وتحديد الأولويات في سياسات الجذب والاستثمار.”
وإن بدت الفكرة حتى الآن بديهية، فإن ما يجعلها ضرورية حقًا هو الأثر المالي المباشر لاختيار السوق المناسب، فبحسب دراسة Gössling & Hall (2021)، لتحليل الكفاءة الاقتصادية للسياحة المستدامة، فإن تكلفة استقطاب الزائر من سوق بعيد -مثل أمريكا الشمالية- تتراوح بين خمسة إلى سبعة أضعاف تكلفة استقطاب الزائر من سوق قريب.
وهذا الفارق يتجاوز فكرة تكلفة الإعلان أو النقل الجوي فقط، إنما يشمل بناء الثقة وتكرار الحملات التي لا يمكن شراؤها في صفقة واحدة، لأنها تتطلب وقتًا واستمرارية لا تملكها كل الوجهات وخاصة التي في مراحلها التأسيسية.
وتُعد تجربة السياحة الاسترالية، Tourism Australia، من الأمثلة التي توضّح التفاوت بين السوق البعيد والسوق القريب، حيث كلفت حملتهم الدولية عام 2020م، والتي استهدفت أمريكا والصين وبريطانيا، أكثر من 38 مليون دولار، وكان متوسط تكلفة الاستحواذ على الزائر الواحد 780 دولار، رغم أن غالبيتهم لا يكررون الزيارة.
ليست كل الدول بدأت من القمة، وكثير من الدول بدأت من مكان يشبهنا، من حيث الجغرافيا، أو الحكاية، أو الطموح الذي لم يعد محدودًا. خذ المغرب مثلًا، لم تفتح الأبواب على مصراعيها، قررت أن تنظر حولها، إلى فرنسا التي تفهم لغتها، وإسبانيا التي تشاركها البحر، وإلى الجالية المغربية في أوروبا التي لا تحتاج إلى من يشرح لها تاريخ البلاد. اليوم، فرنسا وإسبانيا، تمثلان 45% من زوار المغرب، بينما الجالية المغربية بالخارج شكلّت 35% من إجمالي الزوار.
ثم ننتقل إلى آسيا، ماليزيا تحديدًا، فقد فهمت مبكرًا أن القرب يعني الانتماء المشترك، فصممت حملتها الأشهر، ماليزيا آسيا الحقيقية، Malaysia Truly Asia، ركّزت على الجار الإندونيسي، والمسافر من الخليج، والمقيم في سنغافورة. واستثمرت في تهيئة الخدمات وصناعة تجربة متوائمة مع الزائر المسلم في الطعام الحلال، وأماكن العبادة، والمرافق المناسبة. والنتيجة؟ أكثر من 80% من زوار ماليزيا يأتون من دول إقليمية وتكرار الزيارة من السوق الإندونيسي تجاوز 65%.
في كل مرة تكون فيها في مطار مزدحم، راقب الطائرة التي هبطت للتو، لن تمر لحظات حتى تبدأ الطائرة نفسها بالاستعداد لرحلتها التالية، وفكّر حينها، ماذا لو كانت هذه الرحلة الوحيدة التي ستأتي من تلك المدينة البعيدة؟ ماذا لو كانت كل جهود الترويج والإنفاق والتنسيق قد أنجبت هذه الطائرة لمرة واحدة؟ ثم ماذا؟ يخيب ظنك، أليس كذلك؟
حملة كينيا الساحرة، Magical Kenya، التي أطلقت في أمريكا بين عام 2016 و2018 بتكلفة تجاوزت 7 ملايين دولار، عبر منصات إعلامية كبيرة. جذبت الانتباه نعم، لكن عدد الزوار الأمريكيين لم يزيد إلا بنسبة 2% وبقيت كينيا في الهامش السياحي بالنسبة لهذا السوق، السبب؟ لا رحلات خطوط طيران مباشرة، تأشيرات معّقدة، والصورة الذهنية ما تزال سلبية.
والقصص مثل هذه كثيرة، والحقيقة، أن كثيرًا من الحملات السياحية التي تُصّنف بأنها فشلت، كان السبب أنها سبقت الزمن وتجاهلت الأساس، هو بالضرورة ما يحدث حين يُستهدف السوق البعيد دون أن تُبنى تجربة تضمن العودة.
إذًا، هل يمكن أن نستهدف الزائر الأمريكي؟ نعم يمكن، لكن هل هذا هو القرار الأذكى الآن؟ هذا هو السؤال الحقيقي. كل وجهة كبرى رأيتها في الصور أو حجزت لها، لم تبدأ من أقصى الأرض، بدأت من أقربها، بنَت جمهورها أولًا من الجار الذي يعود، من الذي يقود سيارته ساعة أو اثنتين ويعود آخر الأسبوع. استهداف الزائر البعيد ليس خطأ، لكنه مكلف في وقته ومرهق في انتظاره، وإن جاء، فهو يزور لمرة واحدة وعلى الأغلب لن يكرر زيارته.
الرسالة هنا، استهداف السوق الصحيح هو حجر الأساس في اختيار الزائر الذي تستطيع أن تلتقي به في منتصف الطريق.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال