الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لكل عادة نمارسها دون تفكير قصة لم تُروَ بعد، ولكل تفصيل صغير في حياتنا اليومية جذور أعمق مما نظن. ليست كل الطقوس مجرد عادات، بعضها مرآة لنمطنا النفسي، وبعضها انعكاس لاختياراتنا الثقافية، حتى وإن بدت بسيطة، ومن بين هذه الطقوس، يبرز فنجان القهوة… لا بوصفه مشروبًا، بل كرمز لصوت داخلي يطلب التوازن.
نبدأ به صباحاتنا دون اتفاق، ونجتمع حولها في صمت يشبه الطقوس القديمة. لا نحتفل بها كثيرًا، لكنها لا تغيب. تتسلل إلى تفاصيل يومنا دون استئذان، وتُعيد ترتيب اللحظات، كأنها تمنح شيئًا من التوازن.
في البيوت، وأماكن العمل، واللقاءات العابرة، ترافقنا دون أن نلتفت إليها كثيرًا. لا تُطلب، لكنها تُقدَّم. لا تُناقش، لكنها تُستحسن.
ومع الوقت، أصبحت جزءًا من إيقاعنا النفسي، وحالة من الانسجام المتكرر الذي لا يحتاج إلى تفسير
إنها بكل فخر.. القهوة السعودية.
الحاضرة في كل منزل، وعلى كل طاولة، وفي كل مناسبة. لا تكتفي بأن تكون مشروبًا، بل تُمارس كعادة، وتُقدَّم كرمز، وتُستهلك كشغف متجدد. وما يبدو بسيطًا في مظهره، يخفي وراءه اقتصادًا يتسع، وفجوة لا تُلاحظ بسهولة، وقطاعًا يزدهر تحت مظلة عاداتنا اليومية
لكن ما يبدو شخصيًا جدًا، تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى مظهر عام، يحمل ملامح اقتصادية وثقافية واجتماعية. القهوة التي كانت تُعد في البيوت، أصبحت اليوم جزءًا من مشهد استهلاكي متسارع، دخلت فيه إلى عصر “البراند”، وارتبطت بصورة الزبون لا بذوقه، وتحولت إلى مزيج من الذوق والهوية، ورافعة لنمط جديد من الاستهلاك، ما رفع استعداد المستهلك لدفع أسعار مرتفعة، أحيانًا دون مساءلة.
يُباع الكيلو الواحد من البن المحلي المستخدم في تحضير القهوة بأسعار تبدأ من 25 ريالًا، بينما يُباع كوب القهوة الواحد في المقاهي المتخصصة بما يقارب هذا الرقم. هذه المفارقة تطرح تساؤلًا مشروعًا: كيف يصبح سعر الكوب الواحد قريبًا من سعر الكيلو الكامل؟ المسألة هنا لا تتعلق بتكلفة البن بقدر ما تعكس نمطًا استهلاكيًا يُضخّم من قيمة التجربة على حساب قيمة المنتج نفسه، ويكشف عن هامش ربحي كبير لا يستند إلى تكلفة المادة الخام، بل إلى اعتياد السوق على هذا السلوك.
بطبيعة الحال، لا تقتصر تكلفة القهوة على البن الخام فقط، فهناك عناصر أخرى تدخل في تكوين السعر النهائي، من تشغيل، وإيجارات، وعمالة، وتصميم، وتسويق، إلا أن الفارق بين أصل الكيلو وسعر الكوب النهائي يدفع للتساؤل حول دور ثقافة الاستهلاك في صياغة السوق، أكثر من مجرد حساب التكاليف.
ويأتي هذا الإقبال المرتفع من السعوديين على القهوة كجزء من نمط حياتهم اليومي، ليعزز من زخم هذا القطاع في الأسواق، إذ أصبحت القهوة السعودية أكثر من مشروب صباحي، بل عادة متكررة على مدار اليوم، تتجاوز فوارق الجيل، وتخترق المجالس، والمكاتب، والمقاهي. ولا غرابة أن تكون السعودية ضمن الدول الأعلى نموًا في استهلاك القهوة، سواء على مستوى الطلب الفردي أو التجاري.
بل إن قطاع القهوة أصبح أحد محركات الاقتصاد الليلي الذي كتبنا عنه سابقًا، فالمقاهي لا تُغلق أبوابها بعد المغرب، بل تبدأ ذروة نشاطها بعد التاسعة مساءً، وتتحوّل في بعض المدن إلى مراكز ترفيهية مصغّرة تستقطب الشباب والعائلات، ما يجعل القهوة جزءًا من دورة اقتصادية ليلية تخلق وظائف، وتحرّك مبيعات، وتثري الحياة الاجتماعية خارج ساعات العمل الرسمية.
لكن الصورة تتغيّر حين ننظر إلى القهوة من زاوية “رؤية السعودية 2030”، التي أولت هذا القطاع اهتمامًا خاصًا كمنتج زراعي وتراث ثقافي، بدعم مباشر من القيادة، وضمن برامج تنموية شاملة. فقد تجاوز عدد مزارع القهوة في جازان 2000 مزرعة بإنتاج يفوق 1000 طن، بينما تضاعف عدد المزارع في عسير بين عامي 2022 و2024 من 700 إلى 1400 مزرعة بإنتاج بلغ 875 طنًا، في طفرة زراعية غير مسبوقة.
وتأتي هذه الجهود ضمن دعم حكومي متكامل عبر برنامج “ريف”، الذي خصص أكثر من 61 مليون ريال، ويستهدف زراعة 1.2 مليون شجرة بُن بحلول 2026. ورغم هذه المنجزات، لا تزال السوق تعتمد بدرجة كبيرة على البن المستورد، بفاتورة بلغت 8.3 مليار ريال خلال خمس سنوات، واستيراد تجاوز 432 مليون كيلوجرام، ما يعكس أهمية مضاعفة الاستثمار في الإنتاج المحلي لتحقيق الاكتفاء وتعزيز القيمة الوطنية للبن السعودي.
ولم يقتصر الاهتمام على الإنتاج فحسب، بل امتد إلى البُعد الثقافي، إذ تم تسجيل “القهوة السعودية” في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2015 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، تأكيدًا على مكانتها الراسخة في هوية المجتمع السعودي.
فهل سنشهد يومًا فنجانًا سعوديًا خالصًا بسعر عادل، يوازن بين جودة الزراعة وعدالة السوق؟ أم أن ثقافة التسويق ستظل تسبق ثقافة الإنتاج؟
ختامًا القول.. في فنجان القهوة السعودية حكاية اقتصادية بقدر ما هي ذوق شخصي، وإذا كانت المملكة قد أعادت تعريف مفهوم النفط والثروة خلال العقد الأخير، فمن المنطقي أن تعيد تعريف العلاقة بين المنتج المحلي وسعر الاستهلاك، حتى لا تصبح القهوة رفاهية مغلفة في ورق فاخر، بينما المزارع ينتظر الدعم، والمستهلك يدفع الثمن.
وقد يكون من المفيد اليوم التفكير في بناء منظومة “قهوة وطنية” متكاملة؛ تبدأ من الشجرة، وتمر بالمحمصة، وتنتهي عند المستهلك، حتى لا تظل القهوة مرآة لفجوة السعر، بدلًا من أن تكون رمزًا للاكتفاء والذوق والعدالة الاقتصادية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال