الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتحاور أب مع طفله محاولًا إقناعه بأهمية تسجيله في النادي الصيفي بعد انتهاء العام الدراسي، حيث يرفض الابن بتاتًا فكرة الالتزام ببرنامج صيفي، وعند استفسار الأب عن مبررات ابنه لرفض هذه الفكرة، يبين الابن أن العام الدراسي كان طويلًا جدًّا، بينما الإجازة هي فترة قصيرة من الأجدر الاستمتاع بها وأخذ كفايته من النوم والراحة، فيواصل الأب تساؤلاته لابنه، وماذا أيضًا؟ فيسهب الابن بذكر أنه كان ينتظر هذه الإجازة بفارغ الصبر ليلعب كرة القدم مع أصدقائه، فهو يرغب بأن يكون لاعب كرة قدم محترف ككرستيانو رونالدو، فيعلق الأب: “أفهم من حديثك يا ابني بأنك تريد الاستمتاع بالإجازة وقضاء وقت أكبر للعب كرة القدم مع الأصدقاء، وهنا أنا أتفق معك، يجب أن تستمتع بهذه الإجازة، كما يجب علينا لاحقا الحديث حول استمتاعك بالعام الدراسي الذي يستهلك معظم العام، ما رأيك يا ابني بأن أجد لك نادٍ صيفي يجمع ما بين تعليم مهارات البرمجة التي تبرع فيها، وما بين كرة القدم، ولن تضطر للجلوس في السادسة صباحا كوقت المدرسة، فهذه البرامج تبدأ عصرًا، وتنتهي مساءً حيث بإمكانك الاستمتاع بوقتك مع أقاربك وأصدقائك، وبهذا يكون صيفك متنوعًا وغير مملًّا، هل تعلم بالمناسبة، أن رونالدو يهتم بتنظيم وقته والالتزام بجدول يومي يمكنه من تحقيق طموحاته”.
ما سبق مثال بسيط للتفاوض في حياتنا والذي قد يتم بين أب وابنه بشكل عفوي، وبين طفل وأمه حول إمكانية تناول المثلجات بعد وجبة غداء، وبين رجال الأعمال لعقد صفقاتهم التجارية، وما بين قادة الدول لتحقيق مصالح بلدانهم. التفاوض عملية تتكرر كثيرًا في حياتنا اليومية ومهارة لا غنى عنها لتحقيق ما نريد، للموظف الذي يسعى للحصول على راتب أعلى، وللعميل الذي يرغب في شراء سلعة ما بأقل الأسعار.
للتفاوض استراتيجيات وتكتيكات عديدة تم التطرق لها في عديد من الكتب والأوراق البحثية، لعل أبرز هذه الكتب هو كتاب “فن التفاوض” أو “الوصول لنعم” بحسب ترجمة أخرى، وهو من تأليف الخبير الأمريكي الراحل روجر فيشر، والذي كان أستاذًا جامعيًّا للقانون بجامعة هارفارد، ومؤسسًا لمشروع التفاوض بالجامعة. لست في هذا المقال المختصر، بصدد تلخيص أهم استراتيجيات التفاوض أو الإسهاب في شرح الأطر المختلفة التي قدمها روجر أو غيره من الباحثين، إنما أود تسليط الضوء على مسألة محددة أراها جوهرية من واقع تجربة، وهي الأهمية للإصغاء للطرف الثاني في المفاوضات، قد يبدو ذلك يسيرًا وبسيطًا، إلا أنه من أثقل الأمور على كثيرٍ منّا، سواء في نقاشاتنا العادية، أم خلال التفاوض.
عودة لمثال التفاوض بين الأب وابنه، نلاحظ أن الأب كان مستمعًا جيدًا بل ومصغيًا باهتمام لمبررات ابنه في رفض البرنامج الصيفي، فكان أول ما سهل عملية التفاوض، هو سؤال الأب عن أسباب رفض الابن، ليصغي بعد ذلك لابنه قبل إبداء رأيه المقابل، وهنا أشير لثلاث فوائد رئيسة من إصغاء أطراف التفاوض باهتمام بليغ لبعضهم البعض.
أولها، معرفة الأسباب الحقيقية للممانعة والإقرار بمصالح الطرف الآخر، وهنا نتحدث عن رفض الابن لاقتراح والده، فقد كان الابن يظن بأن البرنامج الصيفي سينكّد عليه الصيف، ويحرمه من لعب كرة القدم مع أقرانه، ومن أخذ قسط كافٍ من النوم، كما أن للابن مصلحة خاصة وطموحا لم يكن ليعلم الأب به، لو لا سؤاله بطريقة مريحة لابنه ليعبر دون خوف عما يفكر فيه. معرفة مخاوف ومصالح الطرف الثاني في التفاوض، هي مفتاح الوصول لاتفاق يحقق ما يرضي الجميع بقدر الإمكان.
ثانيًا، يُشعر الإصغاء الطرف الآخر بأهميته ويبني علاقة إنسانية جيدة تجعل التفاوض أكثر سلاسة، وتشعر الطرف الآخر بأنه مقدّر ولن يُستغفل، ويتجلّى ذلك في تلخيص فهمنا للطرف الثاني أثناء الحديث معهم، للتأكد من فهمنا الصحيح لهم، كما يذكر روجر في كتابه بأن الآخرين يميلون للإصغاء لنا حال إدراكهم بأننا أصغينا لهم بصدق، وأننا متعاطفون معهم، وأننا نحترمهم رغم اختلاف مواقفنا، كل ذلك يعزز حالة من الثقة المتبادلة، وبالتالي هناك احتمالية أعلى بأن يحترموا ويقدروا هم أيضًا وجهة نظرنا ومصالحنا.
ثالثًا، الإصغاء يثري معلوماتك تجاه الطرف الآخر، وهو ما يعاونك في النقاش، بل قد يدفع إصغاؤنا الطرف الآخر لإبداء الحل المناسب دون أن تهتف بكلمة، وقد يجعلك الإصغاء الجيد إذا ما اقترن بالتحليل الجيد أيضًا، إلى إعادة تقديم وصياغة بعض الانطباعات والمفاهيم بطريقة مختلفة، حيث كان الابن في مثالنا البسيط يبحث عن المتعة، فهل المتعة في الفراغ ومن ثم اللعب؟ أم في اللعب والتوازن بين الأنشطة المختلفة؟ كما أن الابن يريد أن يصبح مثل رونالدو، فهو في هذه المرحلة العمرية يراه قدوة، فما كان من الأب إلا الاستفادة من ذلك والإشارة لعقلية وسلوكيات رونالدو التي أدت لنجاحه.
ما سبق هو جانب واحد فقط من جوانب عديدة مهمة للتفاوض الفعال، والذي مهما كانت آليته، من الضرور أن يوصلنا إلى اتفاق إن أمكن، وألّا يدمر العلاقات القائمة بين الأطراف.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال