الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعدّ التعويض المدني عن الفعل الضار في النفس وما دونها من الركائز الأساسية في منظومة الضمانات الشرعية والمدنية في المملكة العربية السعودية. وقد أقرّ نظام المعاملات المدنية هذا المبدأ في المادة (142)، التي نصّت على أنه “إذا كان الضرر واقعًا على النفس أو ما دونها، فإن مقدار التعويض عن الإصابة ذاتها يتحدد وفقًا لأحكام الضمان المقدّر في الشريعة الإسلامية في الجناية على النفس وما دونها.”
وقد استند هذا النص إلى أدلة من الكتاب والسنة، واستقر الاجتهاد القضائي على اعتبار الدية الشرعية هي الأساس في التقدير، كما ورد في قرار الهيئة العامة للمحكمة العليا رقم (2) لعام 1431هـ، والأمر السامي رقم 43108 لعام 1432هـ، الذي اعتمد دية النفس في القتل العمد وشبه العمد بمبلغ (400,000) ريال، ودية الخطأ بمبلغ (300,000) ريال، مع الالتزام بالنسب الفقهية المعتمدة في تقدير ديات الأعضاء والمنافع والشجاج.
وقد ساهمت الجدولة الفقهية المعتمدة – التي أعدها فضيلة الشيخ عبدالعزيز الغديان – في ضبط معايير التقدير، وشكّلت مرجعًا عمليًا للقضاء في قضايا الجنايات، لاسيما مع تزايد الحوادث الطبية والاعتداءات الجسدية، وارتفاع الحاجة إلى آليات تقدير أكثر عدالة واستجابة لواقع الحالات المتنوعة.
ورغم متانة هذا الأساس الشرعي والتنظيمي، فإن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تشهدها المملكة تفرض ضرورة تطوير هذه المنظومة، والانتقال بها من الإطار التقليدي إلى فضاء أرحب من العدالة المدنية الشاملة. وذلك بما ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030، التي أولت اهتمامًا كبيرًا برفع كفاءة المنظومة القضائية، وتعزيز العدالة الوقائية والتعويضية، وترسيخ الثقة في المؤسسات العدلية، وبناء بيئة قانونية جاذبة ومحفزة للاستثمار، قائمة على مبدأ سيادة القانون، دون تعارض مع المبادئ الإسلامية السمحة، وفي طليعتها إقامة العدل بين الناس، باعتباره غاية شرعية ومطلبًا تنمويًا أصيلًا.
وفي هذا السياق، تكتسب الأحكام الواردة في الفرع الرابع من الفصل الثالث من الباب الأول في القسم الأول من نظام المعاملات المدنية، والمتعلقة بالتعويض عن الفعل الضار، أهمية محورية في بناء عدالة تعويضية متكاملة. فقد نصّت المادة (136) على أن يكون التعويض بما يجبر الضرر كاملًا، بإعادة المتضرر إلى وضعه السابق أو ما يعادله. وأكدت المادة (137) شمول نطاق التعويض للخسارة وفوات الكسب متى كانا نتيجة طبيعية للفعل الضار. كما أقرت المادة (138) تعويض الضرر المعنوي، بما يشمل الأذى النفسي والمساس بالسمعة أو المركز الاجتماعي، مع ترك تقديره للمحكمة بحسب طبيعة الضرر وظروف المتضرر.
وتمنح المواد اللاحقة المحكمة مرونة واسعة في تحديد وسيلة التعويض، سواء أكان نقدًا أو بالمثل أو على أقساط، كما أجازت التقدير الأولي إذا تعذر التحديد النهائي، مما يمكّن القضاء من التكيّف مع ظروف كل حالة. وعند تفعيل هذه النصوص في قضايا الجناية على النفس وما دونها، فإنها تُشكّل منظومة متكاملة لجبر الضرر الجسدي والمعنوي والاقتصادي، وتسهم في سدّ الفجوات التي لا تغطيها دية الإصابة وحدها، مما يعزز من العدالة الواقعية ويزيد من ثقة المتقاضين.
ويُثار هنا تساؤل جوهري حول مدى كفاية التقدير التقليدي، الذي يعتمد على الإبل كمقياس نشأ في سياق اقتصادي مغاير، لم تكن فيه العملات المستقرة أو أدوات التقدير المالي الحديثة متاحة كما هي اليوم. وفي ظل تصاعد تكاليف العلاج وتعقيد حالات الإعاقة وتزايد الأضرار النفسية والاجتماعية، تبرز الحاجة إلى أدوات تقدير أكثر دقة ومرونة، تراعي تطورات العصر، وتبتعد عن الجمود، مع أن الفقه الإسلامي لا يمنع التعويض المالي التقديري عند تحقق الضرر غير المقدّر.
وعليه، فإن التقدير المالي للتعويض يجب أن يتصف بالعدالة والمرونة، لا سيما في حالات الضرر المركّب؛ كمن يفقد عضوًا ويصاب بعاهة دائمة تؤثر في قدرته على الكسب أو في مكانته الوظيفية. ومن ثمّ، فإن الحاجة قائمة لمرجعية تنظيمية مساندة للمادة (142) من نظام المعاملات المدنية، على هيئة آلية تنظيمية أو دليل قضائي موحّد، يأخذ في الاعتبار المتغيرات الاقتصادية والطبية والاجتماعية، ويوحّد الاجتهادات القضائية، ويعزز استقرار الحقوق ويسهّل الوصول للعدالة.
وفي سياق متصل، يُعد تمكين المرأة حقوقيًا جزءًا أساسيًا من مستهدفات رؤية المملكة 2030، وهو ما يقتضي مراجعة بعض الأحكام التي تُحدث تفاوتًا في التعويض بين الجنسين، كمسألة دية المرأة مقارنة بالرجل. ووفقًا للجدولة الفقهية المعتمدة، تُقدَّر دية المرأة في القتل الخطأ بمبلغ (150,000) ريال، أي نصف دية الرجل البالغة (300,000) ريال، وينسحب ذلك على ديات الأعضاء والمنافع. ومع أن هذا التقدير يستند إلى اجتهادات فقهية معروفة، فإن الواقع المعاصر وما يشهده من تغير في أدوار المرأة ومسؤولياتها يدعو إلى إعادة النظر في هذه الفروق بما يعزز العدالة ويحقق المساواة في القيمة الإنسانية ويواكب تطلعات الدولة في تمكين المرأة وضمان حقوقها على قدم المساواة.
وعند النظر إلى التجارب الدولية، نجد نماذج تشريعية وقضائية متقدمة يمكن الاستفادة منها. ففي فرنسا، يُطبق نظام “التقييم الشامل للضرر الجسدي”، الذي يشمل الأذى البدني والنفسي وفقدان الدخل والتبعات العائلية، بناءً على تقارير طبية قانونية دقيقة. أما في إنجلترا، فتعتمد المحاكم على جداول مرجعية تصدرها لجنة قضائية مستقلة وتُحدّث سنويًا لتعكس الكلفة الطبية والاجتماعية، وتشمل تعويض الألم والمعاناة وفقدان المتعة بالحياة. كما طورت ألمانيا وكندا أدوات رقمية ونماذج محوسبة تُسهّل تقدير الضرر بسرعة وعدالة.
وعلى المستوى العربي، برزت نماذج واعدة تمزج بين أحكام الدية الشرعية وآليات التقييم المدني الحديث. ففي الإمارات، طُبق نموذج مزدوج يجمع بين التقدير الشرعي وتقييم مشترك من لجان طبية وقانونية تحدد نسب العجز وآثاره. وفي قطر، أقرّ القضاء مبدأ التعويض الإضافي عن الأضرار النفسية والمعنوية متى ثبتت، بناءً على تقارير اجتماعية وطبية دقيقة. وسارت على ذات النهج دول مثل الأردن وتونس، التي أقرت قواعد فنية لربط الضرر الجسدي والنفسي بقدرة المصاب على الكسب.
وتُظهر هذه النماذج الخليجية والعربية قدرة النظم القضائية على التوفيق بين المرجعية الشرعية والتقدير المدني الحديث، بوسائل تراعي تنوع الأذى وتكاليفه، وتضمن حق المتضرر في تعويض شامل عادل، يعكس التحولات الاجتماعية والقيم الإنسانية والدستورية.
وتماشيًا مع أهداف برنامج جودة الحياة، ينبغي أن يشمل نطاق التعويض عناصر الألم والمعاناة النفسية، وفقدان المتعة بالحياة أو القدرة على العمل. وهي عناصر أقرتها مذاهب فقهية معتبرة، وإن لم تُدرج تقليديًا ضمن الدية الأصلية. إن تجاهل هذه العناصر في التقدير القضائي يُحدث فجوة بين النص وتطبيقه، ويقوّض ثقة المتقاضين بقدرة النظام على تحقيق جبر شامل ومنصف. ولردم هذه الفجوة، تتطلب المنظومة العدلية تطويرًا تشريعيًا يُعزز تطبيق المادة (142) من نظام المعاملات المدنية، ويكملها بأدوات مرنة توحّد الاجتهاد وتدعم ثقة المجتمع في العدالة.
ختامًا، فإن تحديث منظومة الديات والتعويضات لم يعد خيارًا تنظيميًا بل ضرورة تشريعية تمليها العدالة وتفرضها تحولات الواقع، وتستدعي مراجعة متأنية للأحكام الاجتهادية التي نشأت في سياقات مختلفة. ويشمل ذلك تضمين الأضرار النفسية ضمن نطاق التعويض، وتحديث مقادير الدية بما يعكس تطورات الحياة، والنظر في ديات المرأة بما يواكب دورها ومسؤولياتها، ويعزز المساواة في القيمة الإنسانية. إن تطوير أدوات التقدير وتوحيد الاجتهادات القضائية يرسّخ عدالة أكثر شمولًا، ويجسد التزام الدولة بحماية الحقوق وصون الكرامة، بما يتسق مع أهداف رؤية المملكة 2030 في بناء منظومة عدلية عصرية، عادلة، ومستدامة. ومن هنا، تتجدد الحاجة إلى تحركٍ تشريعي وقضائي فاعل ومتكامل لترجمة هذه التطلعات إلى إصلاحات واقعية تلبّي حاجات المتقاضين، وتعزز ثقة المجتمع في العدالة، وتصنع فارقًا ملموسًا في حياة الناس.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال