الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهد عام 2025 تحولاً هيكلياً عميقاً في أسواق النفط العالمية، تمخّض عن مفارقةٍ نادرةٍ، حيث انخفض خام برنت 5.6% في ظل التهدئة للتوترات في الشرق الأوسط، بشكل معاكس للنمط التاريخي الذي ترفع فيه الأزماتُ الإقليميةُ الأسعارَ بشكلٍ حادٍّ. ويُظهر في الرسم البياني خط الأداء للعام 2025 (باللون الأحمر) تراجعًا بنسبة -7% حتى الآن، وهو ما يضعه في الربع الأدنى تاريخيًا لأداء الأسعار منذ 1985، وبفارق واضح عن المتوسط التاريخي البالغ +5.11% وتشير نطاقات اللون الأزرق التوزيع المئوي للأداء عبر السنوات، حيث تقع أغلب السنوات في نطاقات إيجابية، بينما ينحرف أداء 2025 عن هذا النمط المعتاد. ويعكس هذا الأداء الضعيف صموداً متزايداً للأسعار أمام الصدمات الجيوسياسية، مدفوعاً بعوامل هيكلية مثل تنويع سلاسل الإمداد، وارتفاع الإنتاج من خارج “أوبك+”، وتضخم المخزونات الاستراتيجية لدى الدول المستهلكة، إضافة إلى تسارع التحول نحو الطاقة النظيفة وتزايد القلق من تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي. وتشير هذه المعطيات إلى أن الانخفاض الراهن لا يُعد ظرفياً، بل يمثل تغيراً بنيوياً في ديناميكيات السوق، حيث تراجعت فاعلية المخاطر الجيوسياسية كرافعة سعرية تقليدية. ويطرح هذا الواقع تحدياً جوهرياً للاقتصادات الريعية المعتمدة على صادرات النفط مثل السعودية والعراق والجزائر والكويت، حيث يُضعف النفوذ التسعيري ويكشف عن هشاشة النموذج التنموي القائم على العوائد النفطية المتقلبة. ومن ثم، تبرز ضرورة مُلحّة لتسريع التنويع الاقتصادي، وتبني سياسات مالية مرنة تضمن استدامة الموازنات العامة في بيئة سوقية أكثر استقراراً من الناحية الهيكلية، لكنها أكثر عرضة لضغوط هبوطية طويلة الأجل. (الرسم البياني رقم1).
الرسم البياني رقم 1: أسعار النفط وسط التهدئة للمخاطر الجيوسياسية
لقد شهد عام 2025 اتساق تحوّلاتُ خام غرب تكساس مع النمط الهيكلي لخام برنت، حيث يُبرهن تقارُبُ سعره الفعلي (68 دولارًا، يوليو 2025) مع قيمته العادلة (بانحراف -2.76%) بعد هبوطٍ متوازٍ منذ ذروتي 2023 و2024، على ذات الظاهرة التي تجلّت في تراجُع برنت 5.6% مع التهدئة في الشرق الأوسط، وهي مفارقةٌ تاريخيةٌ في منطقة كانت أزماتها السياسية ترفع الأسعار 15-20%. ويعكس هذا التوافقُ المُزدوجُ هيمنةً متعاظمةً للعوامل الهيكلية، بدءاً من توسع الإنتاج غير التقليدي (22 مليون برميل/يوم في أمريكا الشمالية وحدها)، مروراً بتباطؤ الطلب الهيكلي جراء الركود الصيني (نمو أقل من 4%) وصعود في مبيعات السيارات الكهربائية (26% من مبيعات السيارات عالمياً)، وصولاً إلى فائض المخزونات الاستراتيجية، 3 مليارات برميل، أعلى مستوى منذ 2020، مما أدى إلى محدودية تأثيرَ المُحركات العابرة كالمضاربات والصدمات الجيوسياسية. وتتجلى أخطر تداعيات هذا التحول في انحسار دور الدول المصدرة كمنظم للسوق، حيث أخفقت سياسات خفض إنتاج “أوبك+” في الحفاظ على أسعار النفط فوق 80 دولاراً لأكثر من 3 أشهر، أو حتى استعادة “علاوة المخاطر” التقليدية، وذلك نتيجة استجابة السوق الفورية لفائض المعروض، البالغ 2.5 مليون برميل/يومياً والطلب المتباطئ، (الرسم البياني رقم 2).
الرسم البياني رقم 2: سعر خام غرب تكساس الأمريكي؟ نموذج القيمة العادلة
يؤسس هذا التقارب بين واقعيْ برنت وخام غرب تكساس مرحلة جديدة من التوازن الهيكلي، تتسم باستقرار نسبي في الأسعار (حول نطاق 65-75 دولاراً لخام غرب تكساس)، لكنها تحمل في طياتها تحديات جسيمة للاقتصادات النفطية. فمستوى الأسعار هذا، رغم كونه يعكس الأسس الاقتصادية بدقة أكبر، لا يكفي لتمويل الموازنات الطموحة لدول مثل السعودية والجزائر والعراق، خاصة مع الحاجة الضخمة للاستثمار في برامج التحول الوطني والتنويع الاقتصادي. ويُضاعف من هذا الضغط المالي تراجع علاوة المخاطر الجيوسياسية التي كانت تشكل مصدراً إضافياً للإيرادات في الماضي، كما يوضح تحليل برنت. وبالتالي، يُصبح تسريع الإصلاحات الداخلية من خفض تكاليف الإنتاج، رفع الكفاءة، تطوير الطاقة المتجددة وتنويع مصادر الدخل غير النفطية ليس خياراً استراتيجياً فحسب، بل ضرورة مالية قصوى لسد الفجوة بين الإيرادات المتقلصة والمتطلبات الإنمائية المتزايدة، في ظل بيئة سوقية قلّصت هامش المناورة التقليدي إلى حد كبير.
وحول ترسُّخ التحول الهيكلي في أسواق النفط من انفصال خام برنت عن العوامل الجيوسياسية وتقارب غرب تكساس مع قيمته العادلة يشير منحنى العقود الآجلة طويلة الأمد للنفط إلى توطُّد استقرار الأسعار كسمة دائمة، مع توقُّع بقاء خاميْ برنت وغرب تكساس في نطاق 60–70 دولاراً حتى 2030، وذلك بعد عقود من التقلبات العنيفة. ويجسّد هذا المسار المستقر ملامح الهيكل الجديد لسوق النفط، القائم على تباطؤ الطلب العالمي نتيجة التحول في قطاع الطاقة، وارتفاع كفاءة الاستهلاك، إلى جانب التنسيق المتنامي بين “أوبك+” والمنتجين المستقلين. غير أن هذا النمط السعري المتوازن يفرض على المملكة العربية السعودية تحديات استراتيجية متزايدة، إذ لم تعد سياسات خفض الإنتاج قادرة على رفع الأسعار دون التسبب في خسائر ملموسة في الحصص السوقية. وفي الوقت ذاته، تتزايد كلفة الإبقاء على طاقة احتياطية غير مستغلة تُقدّر بنحو 2.5 مليون برميل يومياً، بتكلفة سنوية تُراوح بين 4 و 5 مليارات دولار، ما يُثقل كاهل الموازنة العامة في ظل متوسط سعري متوقّع يبلغ 65 دولاراً للبرميل، وهو مستوى غير كافٍ لتمويل متطلبات برامج التنويع الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، (الرسم البياني رقم 3).
الرسم البياني رقم 3: منحنى الأسعار المستقبلية لخام برنت وخام غرب تكساس
في ظل استقرار أسعار النفط المتوقّع ضمن نطاق 60-70 دولاراً حتى 2030، تبرز فجواتُ أسعار التعادل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمدخلٍ لقياس المرونة المالية. تواجه المملكة العربية السعودية، رغم دورها المحوري في استقرار السوق، تحدياتٍ في سد الفجوة بين سعري تعادلِها في الميزان الخارجي (86.5 دولاراً) والميزان المالي (96.2 دولاراً) والمتوسط الفعلي لسعر النفط (65 دولاراً للبرميل)، ما يُصنّفها ضمن الاقتصادات الأكثر تأثراً بتقلبات السوق. إن هذه الضغوط تتعاظم في دول كالبحرين (160.8 دولاراً للبرميل) والجزائر (155.6 دولاراً للبرميل) وإيران (137.5 دولاراً للبرميل)، حيث تفوق فجوات التعادل 30% من السعر الفعلي، مما يسلط الضوء على الحاجة لإعادة هيكلة النماذج الاقتصادية. في المقابل، تُظهر دول كالإمارات (50.0 دولاراً للبرميل) وقطر (47.1 دولاراً للبرميل) مرونةً أعلى، والذي لا يعزى حصرياً إلى درجة التنويع الاقتصادي، بل أساساً إلى كفاءة نموذجهما المالي الذي يحافظ على متطلبات موازنة عامة محدودة نسبياً، بالمقارنة مع دول ذات كتلة سكانية أكبر وبرامج إنفاق حكومي أوسع. وإن هذا التفاوت يفرض على الدول ذات العجز في الميزان المالي المرتفع، مثل المملكة العربية السعودية، تسريعَ التحول عبر ثلاث ركائز: ترشيد الإنفاق العام، وإعادة توجيه الاستثمارات نحو الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية، وتعزيز مساهمة القطاعات غير النفطية كالتعدين والسياحة والخدمات المالية، (الرسم البياني رقم 4).
الرسم البياني رقم 4: أسعار تعادل النفط (الميزان الخارجي والميزان المالي) في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال