الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الاقتصاد القائم على المعرفة أو ما يعرف بالاقتصاد المعرفي، اقتصاد قائم على إنتاج واستخدام المعرفة والمعلومات، وقواعد البيانات، والابتكارات كمحرك أساس للنمو الاقتصادي، وتتحوّل فيه الأفكار إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية. ومن هنا نجد أن الاقتصاد المعرفي يتصف بعدم اعتماده المباشر على عناصر الإنتاج كالعمل، ورأس المال، والمواد الخام مقارنة بالصناعات التقليدية.
الواقع الجديد الذي يجلبه الاقتصاد المعرفي، وتحديداً الاقتصاد الرقمي القائم على تطبيقات التقنيات الرقمية، واستخدام الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة وغيرها، يتزامن وبشكل متزايد مع الهيمنة السوقية للشركات الكبرى BigTechs المتخصصة في منتجات التقنية. لذا، فالتنظيم الاقتصادي Economic Regulation يواجه تحدياً حقيقياً يجبره على الدخول في سباق مستمر مع المستجدات الرقمية المتسارعة. ويقصد بالتنظيم الاقتصادي تدخل الحكومة عبر أجهزتها التشريعية والقضائية والرقابية لتشجيع المنافسة في الأسواق، ولحماية مصالح المستهلكين والمنتجين.
الاقتصاد الرقمي مرتبط بالتحولات التقنية، والتوسع في استخدام وسائل الاتصالات، وتقنيات “البلوكتشين “بكونها البنية الأساسية للمنظومة، والضرورية لتيسير الاستخدام الفردي والمؤسسي للتقنيات المتقدمة. التطورات تشكّل معضلة تشريعية ورقابية خصوصاً مع تزايد اعتماد المستهلكين على منتجات تتطلبها حياة عصرية قائمة على الإنترنت، والبحث والحوسبة السحابية وغيرها، في حين أن المسيطر على إنتاجها قلة من الشركات الضخمة.
تكمن المشكلة التي تواجهها الحكومات منفردة، أو كتكتلات إقليمية (مثل الاتحاد الأوروبي) في أن سرعة تطور المعرفة التقنية، وتطبيقاتها تتجاوز سرعة تطور منظومة التشريعات الاقتصادية المتاحة. لذا، فالهيئات التنظيمية والرقابية تواجه مطالبات بإصدار لوائح وقوانين أكثر مرونة، وقادرة على التأقلم مع التحديثات المستمرة، وفي نفس الوقت تواجه مطالبات بوضع ضوابط استباقية لدرء الضرر عن طريق قواعد عامة وصارمة في نفس الوقت.
وتفاعلاً مع هذه التطورات، التنظيم الاقتصادي مطالب أكثر من ما مضى بتحقيق المواءمة المناسبة، والتوازن بين أهداف متعارضة. فمن جهة، يجب أن يضمن تشجيع الابتكار، ودعم الشركات الناشئة الجديدة بإتاحة الفرصة لها بالنمو بدون المساس بنمو استثمارات الشركات القائمة. ومن جهة أخرى، ثمة حاجة أن يكون التنظيم الاقتصادي قادراً على معالجة تشوهات وإخفاقات السوق، مثل الاحتكارات وهيمنة الشركات الكبرى، إلى جانب حماية الملكية الفكرية وضمان خصوصية البيانات.
تواجه المنظومات التشريعية قضايا جوهرية ملحة من أبرزها تنوع مجالات الهيمنة السوقية، فمن أبرز سمات الشركات الرقمية قدرتها على التوسع أفقياً، واستفادتها مما يعرف بالتأثير الشبكي Network Effect أي كلما ارتفع عدد مستخدمي خدماتها ازدادت درجة ارتباطهم بها لكونها تتيح لهم نطاقاً أوسع للتعامل مع الآخرين عبر الإنترنت مما يزيد منافعهم جميعاً وبالتالي رضاهم.
رضا المستخدمين عنصر مهم في المعادلة التنظيمية الجديدة مما يُصعب تنفيذ الإجراءات القضائية على الشركات المهيمنة، وذلك لأن مبدأ استفادة المستهلكين أصبح ضاغطاً على الأجهزة الرقابية مقارنة بالسابق، حينما كانت نسبة التركز السوقي تعد المعيار الأبرز إن لم يكن الأوحد لتبرير منع الاحتكار. ومن هنا نجد أن الهيئات المسؤولة تتردد في التدخل بدافع حماية مصالح المستهلكين، بل إن هذه الهيئات عاجزة عن كبح سلوكيات شركات ضخمة مثل أمازون وميتا، أو تفكيكهما كونها شركات قادرة على التكيف، وعلى مواجهة العقوبات مالياً وقانونياً.
الطرح النظري حتى في عصر الاقتصاد الرقمي يُفضل قياس درجة الهيمنة، وارتفاع درجة التركز السوقي باعتباره المعيار الأسهل تاريخياً لتبرير التدخل الحكومي، وذلك باستخدام أدوات التنظيم الاقتصادي التقليدية. بينما في الممارسة الواقعية فالتركز السوقي، حتى لو كان مرتفعاً جدًا ينظر له على أنه يُمثّل مؤشّراً تحذيرياً، وليس دليلاً قاطعاً على الإضرار بالمستهلكين، ولذا لا تلجأ الأجهزة الرقابية لتفكيك شركة ما، حتى لو كانت فعلاً تسيطر على نسبة كبيرة من السوق.
في الاقتصاد المعرفي، إجراءات تقييد الاحتكار تتطلب أدلة قوية على حدوث ضرر كبير ومباشر على رفاه المستهلكين، أو حوافز المنتجين للابتكار، فمثلاً الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة الأمريكية مهتمة أكثر بالتأكد من استخدام الشركة المعنية سلوكيات مناهضة للمنافسة مثل قيود الدخول أمام الآخرين، واستهداف زيادة هيمنتها. لذا فتفكيك الشركات المسيطرة على الأسواق لا يلجأ إليه كحل فقط لأن حصتها السوقية ضخمة جداً (مثل أمازون)، بل يشترط إثبات وجود ممارسات محددة تستخدمها الشركة لتوسيع نفوذها، وطرد المنافسين و/أو الإضرار بالمستهلكين، باستخدام التفضيل الذاتي لمنتجاتها أو التواطؤ في استحواذ مباشر أو غير مباشر.
التجربة التاريخية في الولايات المتحدة الأمريكية تشير إلى أن حالات تفكيك الشركات المسيطرة نادرة الحدوث، وتعود للقرن الماضي، وأشهرها تجربة تفكيك شركة ستاندرد أويل عام 1911، وذلك لتحكمها شبه الكامل في إنتاج ونقل وتكرير وتسويق النفط. وكذلك تجربة تفكيك شركة الاتصالات والتلغراف الأمريكية AT&T عام 1982 بفصل خدمة الاتصالات البعيدة، التي تقدمها عن باقي الخدمات، التي احتكرتها بعد سلسلة من الاستحواذ عبر عقود. وكما غير تفكيك شركة ستاندرد أويل قطاع الطاقة الأمريكي إلى حد كبير، فإن تفكيك شركة الاتصالات خلق فرص لدخول شركات جديدة منافسة انبثق عنها ثورة في الابتكار وتقنيات الاتصالات.
بشكل عام، يستهدف التنظيم الاقتصادي وجود أسواق تتصف بالشفافية، وتساوي الفرص من خلال منع سلوكيات مناهضة للمنافسة، مثل التكتلات والتواطؤ بين المنتجين، وبما يُعزز الابتكار، ويُحسّن جودة المنتجات، ويُتيح للمستهلكين خيارات أكثر بأسعار مناسبة. لذا، فالأجهزة الرقابية تمنع اتفاقات تحديد الأسعار، أو تقسيم الأسواق بين شركات معينة، وتقيم طلبات الاندماج والاستحواذ وآليات الامتثال، ومدى تأثيرها على المنافسة والتركز السوقي.
إن التطبيق الفعلي للإجراءات الرقابية، وتحقيق الأهداف في الاقتصاد الرقمي أصبح أصعب من السابق بسبب ضخامة حجم شركات التقنية، وقدرتها على استغلال ميزات اقتصاديات الحجم (واقتصاديات النطاق)، وتقديم منتجات جذّابة بتكاليف منخفضة. كما تبيع الشركات منتجاتها بأسعار مناسبة لأغلب المستهلكين (في البداية على الأقل)، مع جودة عالية في الخدمات تضمن رضاهم كما هو الحال مع محركات البحث والتطبيقات الحديثة. وجود مقدرة لدى شركات التقنية على تلبية حاجات المستخدمين مع تمتعها بإمكانات كبيرة على الاستثمار في البحث والتطوير له منافع واضحة للمجتمع، ولكنه يعزز هيمنتها السوقية.
تأسيساً على ما تقدم، التحدي الحقيقي للهيئات التنظيمية في حقبة الاقتصاد الرقمي يكمن في كيفية تشجيع الابتكار (أو على الأقل عدم إعاقته) وحماية المنافسة، ومنع الإضرار بالمستهلكين وضمان كفاءة السوق في الأجل الطويل. المعضلة الحقيقية تتمثّل في كيفية المواءمة بين التدخل التنظيمي الفعّال مقابل عدم التأثير السلبي على رفاه المستهلكين، وحوافز المنتجين، الأمر الذي يتطلب سياسات عامة مرنة ومتوازنة تحمي المصالح الاقتصادية والاجتماعية لجميع الأطراف.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال