الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لقد عرفت البشرية منذ القدم فضيلة التعاون، ومن أرقى صوره وأشكاله العمل التطوعي غير الربحي، ولا ريب أن التطوع هو من أهم أنواع البر والخير والعمل الصالح الذي يحث عليه الإسلام، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
والقيام بالعمل التطوعي والمشاركة فيه بجدية والحرص عليه بكل إخلاص واهتمام هو من أهم صفات المروءة ومكارم الأخلاق التي يُمتدحُ عليها الإنسان، وفي السيرة النبوية العطرة حين عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء خائفًا مضطربًا يرجفُ فؤادُه عند بدء نزول الوحي عليه لأول مرة، طمأنتْه أمُّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها قائلة: “كلَّا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعْدُوم، وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق” والشاهد هنا أنها رضي الله تعالى عنها امتدحت حرصه صلى الله عليه وسلم على القيام بالعمل التطوعي، ومن صوره وأشكاله فعل الخير، ومساعدة الناس، ودعم الضَّعَفة والمساكين.
ولا شك أن المساهمة في العمل التطوعي غير الربحي تولد لدى المتطوع شعورًا داخليًّا عميقًا بالبهجة والسرور، وهو ما يحسن من حالته النفسية والمزاجية، ويجعله ينظر بشكل إيجابي للحياة وللأشياء، بعيدًا عن المشاعر السلبية، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
وللعمل التطوعي ثمرات وفوائد كثيرة يجنيها المتطوع سواء كانت روحية، أو اجتماعية، أو أدبية، ففي الوقت الذي ينفع فيه العمل التطوعي الآخرين ويغير من حياتهم إلى الأفضل فإن المتطوع ذاته ينعم بالكثير من الفوائد والمكاسب الذي يحققها له التطوع، منها: شعوره بمشاعر الفرح والسرور، والاعتزاز بما يقدمه من إسهامات وما يبذله من جهود في نفع الآخرين وتنمية المجتمع وبناء الوطن، وتمتعه بروح التعاون، وما يعكسه ذلك من رقي أخلاقي وأدبي واجتماعي، هذا فضلًا عن اكتساب المتطوع مهارات التواصل الجيد والفعَّال مع الآخرين، واكتشافه لنفسه ولقدراته، وتحسين تنظيمه وإدارته لوقته، وملء وقت الفراغ بالطاعات، وتعزيز ثقة المتطوع بنفسه، وزيادة قدرته على الصبر والتحمل، وتمتعه بالطاقة الإيجابية، وكل هذا يفيد المتطوع في بناء رؤيته المستقبلية الإيجابية للكون والحياة.
والحق أن مفهوم العمل التطوعي قد تطور كثيرًا في العصر الحديث، وتنوَّعت أشكاله، وأصبح مجالًا منظمًا يهدف إلى خدمة المجتمع بشكل متكامل، ويعزز التنمية المستدامة من خلال طرح الفرص التطوعية والإعلان عنها بطرق ووسائل جذابة، ويُعد التطوع الآن أحد أهم أركان التنمية المستدامة في أي مجتمع حديث، وفيه تتكامل الأدوار بين الأفراد والجهات الحكومية ومؤسسات القطاع غير الربحي.
ومع تسارع وتيرة التنمية في المملكة، يتأكد أن هذا النوع من العمل الاجتماعي لم يعد مجرد نشاط تطوعي عابر، بل أصبح مسؤولية جماعية ومؤسسية يقودها توجه وطني واضح.
وفي طليعة هذه الجهود، يأتي المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي كذراع حكومي محوري يتولى تنظيم وتمكين ودعم القطاع غير الربحي، ضمن رؤية المملكة 2030، التي تستهدف رفع مساهمة هذا القطاع إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتعزيز مشاركة المواطنين في المبادرات التطوعية والتنموية.
ومنذ تأسيسه، حرص المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي على إرساء بنية تنظيمية متقدمة ترتكز على الحوْكمة، وبناء القدرات، وتوسيع الأثر، ومن أبرز برامجه ومبادراته: تنظيم القطاع غير الربحي من خلال إصدار التراخيص والتصنيفات، ووضع الأطر التنظيمية لتعزيز الشفافية والكفاءة، وإطلاق برامج لبناء القدرات وتطوير العاملين في الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فضلًا عن تحفيز العمل التطوعي عبر حملات وطنية مكثفة، مثل “تطوعنا طبعنا” وتنظيم المنصات الرقمية، بالإضافة إلى حشد الموارد المالية وضمان استدامة التمويل من خلال تشجيع الشراكات الاستراتيجية وتعزيزها مع القطاعين الحكومي والخاص، ودعم المبادرات النوعية مثل “مدينة محمد بن سلمان غير الربحية”.
ولو ألقينا نظرة فاحصة متأملة على الإحصاءات الرسمية للمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي خلال عام 2024م لوجدنا نموًّا متسارعًا وإنجازات نوعية متميزة تعكس بوضوح كبر حجم التطور المتحقق في العمل المجتمعي في المملكة.
فمثلًا بلغ عدد المتطوعين1.2 مليون متطوع، ووصلت نسبة المتطوعين إلى 23%من إجمالي عدد السكان، كما بلغت نسبة المتبرعين 47%من عدد السكان، ووصلت القيمة الاقتصادية للتطوع5 مليارات ريال، وبلغ عدد الفرص التطوعية المنفذة43 ألف فرصة، وزاد عدد الكيانات غير الربحية في المملكة عن 4,900 جهة، كما وصلت مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى أكثر من 100 مليار ريال بنسبة (3.3%)، وزادت ساعات التطوع في مختلف ميادين العمل التطوعي في المملكة عن أكثر من 4 ملايين ساعة.
ختامًا أود التأكيد على أن العمل التطوعي غير الربحي لم يعد مجرد رغبة فردية في المشاركة في أعمال الخير والبر، ولم يعد العمل المجتمعي اليوم يُقاس فقط بعدد الحملات الموسمية الداعية له، أو بعدد المشاركين فيه، بل بات يُقاس بمعايير كثيرة منها عمق أثره الاقتصادي، وحجم ومدى نفعه للمجتمع؛ إذ ينبغي أن يكون نافعًا لقطاعات كثيرة وعلى نطاق واسع، فضلا عن معايير الجودة والاستدامة، ومدى اندماجه في الخطط التنموية الوطنية.
وفي ظل الدعم الحكومي والتطور التنظيمي بقيادة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، يمكننا القول: إن المملكة تسير بخطى واثقة نحو نموذج مجتمعي فريد، يتقاسم فيه الجميع شرف البناء، وأمانة العطاء لنقود وطننا ومملكتنا الحبيبة نحو المزيد من الرخاء والازدهار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال