الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بين صمت الأرقام وضجيج الواقع، تبرز الإحصاءات السكانية كعدسة دقيقة تكشف ما لا يُرى بالعين المجردة. ليست مجرد بيانات تُعلن في نشرات رسمية، بل إشارات مبكرة لمستقبل يتكوّن بهدوء خلف الكواليس. وفي أحدث ما كشفت عنه الهيئة العامة للإحصاء، يظهر تعداد سكان المملكة لعام 2024 كخريطة ديموغرافية تحمل في طياتها مزيجًا من الفرص الذهبية والتحديات المتنامية. ما بين شباب يشكّلون الكتلة الأكبر، وشيخوخة تلوّح في الأفق، تقف السعودية أمام لحظة مفصلية تستدعي قراءة واعية واستعدادًا ذكيًا لما هو قادم.
كشفت الهيئة العامة للإحصاء أن عدد سكان المملكة العربية السعودية لعام 2024 بلغ 35 مليون و300 ألف و280 نسمة، وهو رقم لا يُقرأ كعددٍ فحسب، بل كمرآة تعكس تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة. حين ننظر إلى هذا الرقم، لا نرى فقط اتساعًا في الرقعة السكانية، بل نلمح ملامح مجتمع يتغير، يتشكل، ويعيد تعريف نفسه في ضوء معطيات جديدة.
أكثر من نصف السكان سعوديون بنسبة 55.6%، بينما يشكل غير السعوديين 44.4%، وهي نسبة مرتفعة تعكس اعتمادًا كبيرًا على العمالة الوافدة، خاصة في قطاعات البناء والخدمات. هذا التوازن الديموغرافي يطرح تساؤلات حول مستقبل التوطين، والهوية الاقتصادية، ومدى قدرة المجتمع على دمج هذه الفئات في نسيجه دون أن يفقد خصوصيته. أما التوزيع بين الذكور والإناث، فقد كشف عن فجوة لافتة، 62.1% من السكان ذكور مقابل 37.9% إناث، وهي فجوة لا تعكس واقعًا بيولوجيًا بقدر ما تعكس واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا، حيث تسهم العمالة الوافدة الذكورية في ترجيح الكفة، ما يؤثر بدوره على أنماط الاستهلاك، وسوق العمل، وحتى التوازن الأسري.
لكن الأرقام الأكثر دلالة تكمن في التوزيع العمري، حيث يشكل من هم دون سن الرابعة عشرة نسبة 22.5%، وهي نسبة تشير إلى جيل قادم بحاجة إلى تعليم نوعي، وتربية رقمية، وتأهيل يواكب تحولات العصر. أما الفئة الأكبر، من 15 إلى 64 سنة، فتشكل 74.7% من السكان، وهي ما يُعرف بقوة العمل أو “الكنز الديموغرافي”، وهي لحظة نادرة في حياة الشعوب، حين تكون الغالبية في سن الإنتاج. غير أن هذه اللحظة لا تدوم طويلًا، وإن لم تُستثمر جيدًا، فإنها قد تنقلب إلى عبء اقتصادي واجتماعي. أما من تجاوزوا الخامسة والستين، فلا تتجاوز نسبتهم 2.8%، وهي نسبة تبدو ضئيلة اليوم، لكنها تحمل في طياتها ملامح مستقبل مختلف.
فالشيخوخة السكانية ليست حدثًا مفاجئًا، بل مسار زمني يتسلل بهدوء، ومع تحسن الرعاية الصحية وتراجع معدلات الإنجاب، فإن المملكة تتجه تدريجيًا نحو مجتمع أكثر تقدمًا في العمر. هذا التحول يعني ارتفاعًا في الطلب على الرعاية الصحية المتخصصة، وضغطًا متزايدًا على أنظمة التقاعد، وتقلصًا في نسبة السكان المنتجين، ما يستدعي استعدادًا مبكرًا واستراتيجيات بعيدة المدى.
الاستثمار في التعليم والتقنية لم يعد ترفًا، بل ضرورة لرفع إنتاجية الشباب وتعزيز قدرتهم على قيادة الاقتصاد. كما أن تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على العمالة الوافدة باتا من أولويات المرحلة، إلى جانب إصلاح أنظمة التقاعد والرعاية الصحية لتكون أكثر مرونة واستدامة. ولا يقل أهمية عن ذلك تصميم مدن صديقة لكبار السن، تتيح لهم حياة كريمة ومستقلة، وتعزز مشاركتهم في الحياة العامة من خلال العمل التطوعي ونقل الخبرات.
هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جامدة، بل إشارات على لوحة الزمن. السعودية اليوم تقف على مفترق طرق ديموغرافي، بين فرصة ذهبية وتحدٍ قادم. والسؤال الحقيقي ليس كم عددنا، بل كيف نعيش، ونُخطط، ونُحوّل هذه الأرقام إلى مستقبل نابض بالحياة لا تبتلعه الشيخوخة، بل يضيئه الوعي والاستعداد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال