الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تشهد السوق المالية السعودية تحولًا تنظيميًا وتشريعيًا محوريًا، وهو ما يمثل حجر الزاوية في تحقيق أهداف رؤية المملكة ٢٠٣٠ الرامية إلى ترسيخ مكانة المملكة بوصفها مركز مالي عالمي. لقد بنت هيئة السوق المالية إطار تنظيمي متطور للإفصاح والحوكمة يضاهي في نصوصه المعايير الدولية، وتوجت هذه الجهود بصدور “التعليمات الخاصة بإعلانات الشركات المعدلة” التي دخلت حيز النفاذ في مطلع عام ٢٠٢٤، لتؤكد هذا التوجه نحو تنظيم أكثر دقة وتفصيلًا.
إلا أن التحدي القانوني الأبرز في مرحلة نضج السوق الحالية يتجاوز التحقق من “الامتثال الشكلي” للنصوص التنظيمية، لينصب على تقييم “الأثر الفعلي” لجودة هذا الامتثال على حماية المستثمرين وسلامة السوق. يستعرض هذا المقال، من منظور قانوني وتحليلي، الفجوة القائمة بين الالتزام الحرفي بالإفصاح والشفافية الجوهرية التي تمثل الغاية النهائية للمُنظِّم، ويقدم توصيات عملية لمعالجة الثغرات القائمة، بما يتوافق مع الخطة الاستراتيجية لهيئة السوق المالية ٢٠٢٤-٢٠٢٦ التي تهدف إلى “حماية حقوق المستثمرين عبر تعزيز مستوى الشفافية والإشراف”.
1. تحليل الوضع الراهن: قصور الامتثال الشكلي عن تحقيق الغاية التشريعية
يلزم الإطار التنظيمي الصادر عن هيئة السوق المالية الشركات المدرجة بواجب الإفصاح الفوري والدوري عن المعلومات الجوهرية. ورغم أن هذا الإطار يبدو متكاملًا من الناحية النظرية، إلا أن التطبيق العملي يكشف عن ممارسات منهجية تحد من فاعليته القانونية وتُفرّغه من غايته التشريعية، وتتجلى هذه الفجوة في ثلاث صور رئيسية:
غموض الصياغة كأداة للتحلل من الالتزام الجوهري: إن لجوء بعض الشركات إلى استخدام عبارات عامة وفضفاضة، مثل “عقد هام” أو “أثر مالي يُحدد لاحقًا”، ليس مجرد قصور في الصياغة، في الحقيقة هو أسلوب منهجي للتحلل من الالتزام الجوهري بتقديم معلومة كاملة. هذه الممارسة تخلق حالة من “الضبابية القانونية” التي تحرم المستثمر من أبسط حقوقه في تقييم المخاطر الاستثمارية، وتلقي بكامل عبء “عدم تماثل المعلومات” على كاهله. إن السبب الجذري الذي يسمح بازدهار هذه الظاهرة هو غياب قواعد إرشادية ملزمة من المُنظِّم تُعرّف وتؤطر مفهوم “الأهمية النسبية”، في الأسواق الناضجة لا يُترك هذا المفهوم للسلطة التقديرية المطلقة للشركة، بل تحكمه ضوابط ومعايير قضائية وتنظيمية واضحة توازن بين العوامل الكمية والنوعية. لذلك فإن غياب هذه الضوابط في السياق المحلي يفتح الباب على مصراعيه أمام الامتثال الشكلي الذي يخدم مصالح الشركة على حساب شفافية السوق.
التأخر في الإفصاح كإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص: يمثل التأخير المتكرر في نشر المعلومات الجوهرية، وخاصة القوائم المالية، انتهاكًا صريحًا لمبدأ العدالة وسلامة السوق، ويرقى إلى مستوى الإخلال الجسيم الذي يبرر تطبيق سلطة الهيئة الرادعة. ولنا في خبر تعليق تداول أسهم سبع شركات مؤخرًا مثال حي بأن هذا التعليق هو تطبيق صارم لسلطة الهيئة في هذا الشأن. ولذلك فإن الخطر الحقيقي، هو أن المبررات التي تسوقها الشركات المتأخرة، مثل “مناقشات مستمرة مع المراجعين” أو “تعقيدات في تطبيق المعايير المحاسبية”، هي بحد ذاتها معلومات جوهرية بالغة الأهمية. تكشف للمستثمرين عن وجود قصور محتمل في أنظمة الرقابة الداخلية والحوكمة، وتثير مسائل جوهرية حول مدى وفاء مجالس الإدارة بواجب العناية والحرص، مما يحول الحالة من مجرد مخالفة إجرائية إلى مؤشر على مخاطر أعمق في جودة هذه الإفصاحات والتقارير المالية.
الإفصاح الانتقائي بوصفه صورة من صور التدليس: التركيز على عرض الجوانب الإيجابية للأحداث مع إغفال أو تهوين المخاطر والتحديات الجوهرية يقدم صورة مشوهة ومضللة، ويحول الإفصاح من أداة لحماية المستثمر إلى أداة ترويجية. هذه الممارسة تخل بواجب العرض العادل والمتوازن للمعلومات، وتعيق قدرة المستثمر على إجراء الفحص النافي للجهالة (Due Diligence) بشكل سليم. ولذلك فإن هذا الامتثال الشكلي، الذي ينتقي ما يظهره ويخفي ما قد يضر بسمعة السهم، يقوض الهدف الأسمى للتشريع، وهو تمكين المستثمر من اتخاذ قرار استثماري مبني على أساس من الوضوح والشمولية، لا على صورة انتقائية وموجهة.
2. الأساس القانوني والاقتصادي للشفافية: ضرورة استراتيجية
الشفافية ضرورة قانونية وأصل اقتصادي لا غنى عنه. فالأسواق التي تكرس الشفافية تجني فوائد ملموسة وموثقة في الأبحاث الأكاديمية العالمية، أبرزها: تخفيض تكلفة رأس المال، وتعزيز السيولة، ورفع كفاءة السوق. إن توفير معلومات عالية الجودة يقلل من “عدم تماثل المعلومات” بين الأطراف، مما يخفض علاوة المخاطرة التي يطلبها المستثمرون ويجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو هدف محوري لتحقيق مكانة المملكة كمركز مالي عالمي رائد ضمن رؤية ٢٠٣٠. وكما قال المستثمر وارن بافيت: “أفقد بعض أموال الشركة، وسأكون متفهمًا؛ أما إذا فقدت ذرة من سمعة الشركة، سأكون قاسيًا”. في عالم المال، السمعة هي انعكاس للنزاهة، والنزاهة تُبنى على أساس متين من الشفافية.
3. توصيات لتطوير الإطار التنظيمي: نحو الشفافية الجوهرية
لردم الفجوة بين النص والتطبيق، والانتقال بالسوق نحو الشفافية الجوهرية، نقترح تبني أربع مبادرات تشريعية وتنظيمية جذرية:
أولًا: الانتقال من الإفصاح الإخباري إلى الإفصاح التحليلي عبر إلزامية قسم “مناقشة وتحليل الإدارة” (MD&A)
يجب الانتقال من مجرد سرد الأخبار إلى تقديم تحليل عبر إلزام الشركات بتضمين قسم “مناقشة وتحليل الإدارة” (MD&A) في تقاريرها، على غرار النموذج المطبق في الأسواق المتقدمة مثل الولايات المتحدة. هذا القسم ليس ملخصًا للأرقام، بل هو السرد التحليلي الذي تقدمه الإدارة للمستثمرين لشرح أداء الشركة من منظورها الخاص، ويشمل:
تحليل النتائج المالية والتشغيلية: شرح الأسباب الكامنة وراء التغيرات في الإيرادات والمصروفات والربحية.
تحليل السيولة ومصادر رأس المال: تقييم قدرة الشركة على الوفاء بالتزاماتها ومناقشة مصادر التمويل.
مناقشة الاتجاهات والمخاطر والشكوك المعروفة: الإفصاح عن أي اتجاهات أو أحداث سلبية أو إيجابية يُحتمل أن تؤثر جوهريًا على أداء الشركة المستقبلي.
المعلومات التطلعية أو المستقبلية: تشجيع الإدارة على تقديم رؤيتها وتوقعاتها المستقبلية.
ولتفعيل هذا الالتزام، يجب إقرانه بإطار قانوني واضح لـ “للإعفاء من المسؤولية” يحمي الشركات من المسؤولية القانونية عن البيانات المستقبلية المقدمة بحسن نية، شريطة أن تكون مصحوبة بلغة تحذيرية كافية، وهو ما يمثل تحديًا تشريعيًا يتطلب دراسة.
ثانيًا: وضع ضوابط لمعيار “الأهمية النسبية” وإصلاح قواعد “تعاملات الأطراف ذات العلاقة”
تأطير مفهوم الأهمية النسبية: غياب تعريف إرشادي واضح لمفهوم “الأهمية النسبية” يمثل ثغرة تنظيمية. لذلك أعتقد بضرورة تبني هيئة السوق المالية إطار يجمع بين المؤشرات الكمية (مثل نسبة 5% من صافي الدخل كقاعدة إرشادية أولية) والعوامل النوعية كعنصر حاسم في التقييم. فالمعلومة الجوهرية، كما عرفتها المحكمة العليا الأمريكية، هي تلك التي “يوجد احتمال كبير بأن يعتبرها المستثمر العاقل مهمة ضمن المزيج الكلي للمعلومات المتاحة”. فخطأ محاسبي صغير قد يكون جوهريًا إذا كان يخفي فشلًا في تحقيق توقعات المحللين، أو يغير اتجاه الخسارة إلى ربح، أو يتعلق بتعاملات غير قانونية.
إصلاح تعاملات الأطراف ذات العلاقة: تتطلب القواعد الحالية موافقة مجلس الإدارة بعد استبعاد العضو ذي المصلحة. ولتعزيز حماية حقوق الأقلية، يجب إضافة شرط الحصول على رأي مالي مستقل من طرف ثالث محايد، يؤكد أن شروط الصفقة عادلة وتماثل الشروط التجارية السائدة في السوق.
ثالثًا: التحفيز عبر “مؤشر جودة الإفصاح”
ولكل ما سبق طرحه، فإني أجد من الملائم في هذه المرحلة التحولية إطلاق مؤشر الشفافية وجودة الإفصاح، كأداة سوقية لتحفيز السلوك المرغوب. وتعتبر بورصة سنغافورة رائدة في هذا المجال من خلال مؤشر سنغافورة للحوكمة والشفافية (SGTI)، الذي يقيم الشركات بناءً على جودة الممارسات في مجالات متعددة مثل مسؤوليات مجلس الإدارة، حقوق المساهمين، الإفصاح عن المخاطر، والممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG). إن نشر نتائج هذا المؤشر يخلق ضغطًا إيجابيًا من الأقران ويكافئ الشركات المتميزة.
ومع ذلك، يجب تصميم المؤشر بحذر لتجنب بعض التحديات التي واجهتها المؤشرات العالمية، مثل التركيز على “الاستيفاء الشكلي” بدلًا من الجوهر، ومشكلة “جمود النص” بمعنى أن توحد المتطلبات على نحو لا يراعي اختلاف أحجام وأنشطة الشركات، وضمان دقة البيانات المستخدمة، والموازنة بين فوائد الشفافية ومخاطر الضرر التنافسي الناتج عن الإفصاح المفرط.
رابعًا: تعزيز دور ومسؤولية المراجع الخارجي والمستشار القانوني
لا تكتمل منظومة الشفافية دون تفعيل الدور المحوري للمراجع الخارجي والمستشار القانوني، فهم الذين يصادقون على جودة المعلومات. لذا، نوصي بتوضيح وتعزيز مسؤولية المراجعين والمستشارين القانونيين لتشمل صراحةً التحقق من جودة وشمولية الإفصاحات السردية والنوعية، وليس فقط دقة الأرقام المالية. يجب أن يكون المراجع والمستشار مسؤولين عن تقييم ما إذا كانت الإفصاحات (مثل قسم MD&A المقترح) تقدم صورة “عادلة ومتوازنة”، وأن يتحقق من التطبيق السليم لمبدأ الأهمية النسبية بعوامله الكمية والنوعية، مع وجود إطار واضح للمساءلة القانونية في حال إخفاقهم في أداء هذا الدور الرقابي الموسع.
في خاتمة هذه المقالة لابد أن نُشير إلى أن؛ هيئة السوق المالية السعودية أرست أساسًا تشريعيًا وتنظيميًا متينًا. والمرحلة التالية تتطلب الارتقاء بهذا الإطار والانتقال من فرض الامتثال الشكلي إلى ضمان الشفافية الجوهرية والفعالة. التوصيات المطروحة هي استثمار استراتيجي في الأصل الأثمن لأي سوق مالية: ثقة المستثمر. هذه الثقة، المبنية على سيادة القانون وحماية الحقوق، هي التي تعزز كفاءة السوق، وتخفض تكلفة رأس المال على الشركات السعودية، وتجذب رؤوس الأموال العالمية اللازمة لتحقيق التنويع الاقتصادي المنشود في رؤية ٢٠٣٠.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال