الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل اقتصاد حيّ، لا تكفي وفرة الإنتاج لتمنح القوة، ولا يُترجم النمو إلى فاعلية ما لم يرافقه وعيٌ بأدوات السوق. فالقيمة لا تُقاس فقط بما نملكه، بل بكيف نُسعّره، وكيف نُنظّم تداوله، وكيف نصنع له مرجعية تحكمه بعدل.
من هنا تبدأ جدية أي دولة في إدارة اقتصادها. لا من حجم مواردها فقط، بل من قدرتها على التحكم في طريقة تسعيرها، وتحديد منطق السوق لا الخضوع له. فكلما امتلكت الدولة أدوات التسعير، امتلكت القرار.
انطلاقًا من هذا المفهوم، تمضي السعودية بخطى واثقة نحو مشروع محوري: إطلاق بورصة وطنية للسلع الأساسية، لا باعتبارها مجرد منصة تداول، بل كأداة سيادية لإعادة ضبط السوق المحلي، وتمكينه من تسعير موارده بعدالة واستقلالية.
برأيي، ما يُعمل عليه اليوم هو تأسيس منصة تعيد تعريف العلاقة بين المنتج والسوق. فهذه البورصة ستكون أول أداة سعودية تمنح السوق المحلي القدرة على تسعير موارده الزراعية والمعدنية وفق أسس عادلة، لتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية، وبعيدًا عن تقلبات المؤشرات الدولية التي لا تعبّر بالضرورة عن واقع السوق المحلي. السوق اليوم بحاجة إلى مرجعية داخلية تُعيد للمنتج قيمته الحقيقية، وتحمي السوق من العشوائية
وحسب قراءتي لما يحدث في القطاع التعديني، فالسعودية تبني الآن بيئة استثمارية غير مسبوقة: أكثر من 32 مليار دولار استثمارات قائمة في الحديد والفوسفات والألمنيوم والنحاس، تمثل قرابة ثلث المستهدف حتى 2030. كما تضاعف الإنفاق على الاستكشاف أربع مرات، وعدد الشركات العاملة ارتفع من 6 شركات فقط عام 2019 إلى 138 شركة اليوم، 70% منها شركات أجنبية، و60% منها شركات صغيرة ومتوسطة.
في ظل هذا التوسع، وجود بورصة للسلع لم يعد خيارًا، بل ضرورة اقتصادية وتنظيمية. فتداول الذهب، السكر، الأرز، الزيوت، النحاس وسواها داخل منصة وطنية لا يخدم المنتج فحسب، بل يدعم الجهات التمويلية، ويعزز الشفافية، ويمنح المستثمرين أدوات تحوّط وبناء عقود مستقبلية.
ويعزّز هذا التوجه ما كشفه خالد المديفر، نائب وزير الصناعة والثروة المعدنية لشؤون التعدين، في مقابلة مع “اقتصاد الشرق مع بلومبرغ”، عن أن العمل جارٍ حاليًا على إعداد البنية التنظيمية والتقنية لإطلاق البورصة، ضمن مسار واضح لدعم مستهدفات رؤية 2030، التي تهدف إلى أن يصبح قطاع التعدين ثالث أكبر مساهم في الاقتصاد بعد النفط والبتروكيماويات.
المسألة ليست تنظيمًا ماليًا. بل إعلان واضح بأن من ينتج… يملك القرار.
تشمل قائمة السلع المستهدفة في البورصة: الذهب، السكر، الأرز، الزيوت، الحديد، والنحاس، وهي منتجات تمثّل شريان الحياة اليومية والاقتصاد الصناعي معًا. ومع تنامي الإنتاج المحلي في هذه القطاعات، يصبح وجود سوق محلية عادلة للتسعير والتداول ضرورة تسبق الفائدة، وتؤسس لمرحلة أكثر استقرارًا وشفافية.
في السياق السعودي، أرى أن لهذه البورصة بُعدًا مضاعفًا، فهي ليست مجرد أداة مالية، بل رافعة للثقة في المنتج المحلي، ومنصة لاستعادة السيادة على تسعير الموارد. ولأنها تُبنى من نقطة الصفر، فمن المرجح أن تعتمد على بنية تقنية متقدمة تُعزز الكفاءة والموثوقية، وتفتح المجال لتداولات ذكية قائمة على البيانات، وربما منصات رقمية مستقبلية مدعومة بالذكاء الاصطناعي وسجلات “بلوك تشين” لضمان الشفافية في تسعير العقود.
وأعتقد أن البورصة ستُحقق نجاحًا باهرًا، لما تملكه من دعم تنظيمي قوي، واستعداد تشغيلي متكامل، وتوقيت مثالي يتناغم مع تحولات السوق السعودي.
وفي المنطقة، لا توجد بورصة سلع إقليمية مركزية تضاهي ما تُخطط له السعودية اليوم. ولهذا، لا تنشئ المملكة سوقًا محلية فحسب، بل تملأ فراغًا طالما عطّل التجارة العادلة في المنطقة، وحرَم المنتجين من مرجعية تسعيرية نابعة من أسواقهم.
وهي – في نظري – فرصة أيضًا للقطاع الخاص لتطوير منتجات استثمارية جديدة، وربما ولادة صناديق استثمارية تستند إلى سلع وطنية لأول مرة، ما يوسّع دائرة الابتكار المالي في سوقنا المحلي.
ما يعزز هذا التوجه في نظري، أن المملكة لا تكتفي بتسويق منتج، بل تبني نظامًا اقتصاديًا متكاملًا، يتدرج من الاكتشاف إلى الإنتاج إلى التسعير إلى التصدير، تحت مظلة رؤية تتعامل مع الاقتصاد كمنظومة سيادية. والمملكة كذلك تستهدف أن تتحول إلى مركز إقليمي للمعادن والسلع الأساسية، في منطقة تمتد من شرق أفريقيا إلى غرب آسيا وآسيا الوسطى، وهي منطقة تتشابه جيولوجيًا، وتتقاطع مصالحها التنموية بشكل يجعل من التعاون فيها فرصة لتكامل إقليمي واسع.
ختام ما أقول.. بورصة السلع ليست مجرد منصة تداول، بل إعلان صريح عن سيادة اقتصادية تُكتب بأدوات محلية وقواعد تُصاغ من أرض الواقع.
وحين تبدأ السعودية بتسعير مواردها بنفسها، فهي لا تُنظّم السوق فقط، بل تعيد تشكيله.
إنها خطوة تكرّس الاستقلال، وتمنح المنتج والمستثمر والمستهلك سوقًا أكثر عدالة ووضوحًا.
إنها السعودية… تصنع أدواتها، وتكتب قواعدها، وتُمهّد الطريق لسوق يبدأ منها، لا يُملى عليها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال