الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في السوق، لا أحد يستثمر في مشروع لا يحقق عائدًا. فلماذا لا نتعامل مع التعليم بالمنطق ذاته؟ آلاف البرامج التعليمية تُنفذ سنويًا، لكنها لا تُقاس بعائد اقتصادي حقيقي، وكأنها خارج معادلة التنمية. في زمنٍ تُحتسب فيه جدوى كل ريال يُنفق، يصبح من غير المنطقي أن نظل نصمم برامج أكاديمية لا تُنتج قيمة، ولا تُوظّف خريجًا، ولا تُحرّك عجلة الاقتصاد. الواقع يقول إن التعليم – إن لم يكن جزءًا من الحل الاقتصادي – فهو جزء من المشكلة. والسؤال الجوهري الذي ينبغي أن نطرحه اليوم هو: كيف نصمم برامج تعليمية تُنتج نموًا، وتبني اقتصادًا، وتخلق فرصًا حقيقية؟
في خضم التحولات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد التعليم ترفاً فكرياً أو مجرد مسار معرفي، بل أصبح ضرورة استراتيجية لبناء المستقبل. فالدول التي استطاعت أن تُحدث قفزات نوعية في ناتجها المحلي لم تعتمد على وفرة الموارد فقط، بل على إعادة صياغة العلاقة بين التعليم والاقتصاد، بحيث يصبح كل برنامج تعليمي أداة فاعلة في إنتاج القيمة وتحقيق النمو.
عند التأمل في هيكلة العديد من البرامج التعليمية، يتبيّن أحيانًا وجود فجوة بين محتوى ما يُدرّس داخل القاعات الدراسية وما يتطلبه سوق العمل من مهارات وكفاءات. هذه الفجوة لا تقتصر آثارها على صعوبة التوظيف فحسب، بل قد تؤدي إلى هدر في الطاقات والموارد، وتراجع في ثقة المجتمع بمخرجات التعليم، إلى جانب فقدان فرص تنموية كان من الممكن استثمارها بفعالية. وفي عالم يتسارع فيه التغيير، يصبح التعليم الذي لا يسهم في إنتاج قيمة مضافة ملموسة أقل قدرة على تلبية التطلعات المستقبلية.
إن البرامج التعليمية القادرة على تحقيق عوائد اقتصادية مستدامة هي تلك التي تُبنى على أسس تحليلية دقيقة، تنطلق من دراسة واقعية للسوق، وتُصمم وفق معايير الكفاءة والتأثير. لا يكفي أن يكون البرنامج “جيداً أكاديمياً”، بل ينبغي أن يكون “مربحاً اجتماعياً واقتصادياً”، أي يُفضي إلى توظيف حقيقي، أو ريادة ناجحة، أو إنتاج ملموس في القطاع المستهدف.
ولعل أبرز المؤشرات على فاعلية البرنامج التعليمي هو ما يقدمه من أثر بعد التخرج: هل يجد خريجوه فرصًا حقيقية؟ هل يسهمون في رفع الإنتاجية؟ هل يحققون دخلاً يعود بالنفع عليهم وعلى الاقتصاد الوطني؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة هي ما يصنع الفارق بين برنامج تعليمي يمثل عبئاً ، وآخر يمثل أداة للنمو والتوسع.
كما أن مفهوم العائد لا يقتصر على التوظيف المباشر، بل يشمل أيضًا ما ينتجه التعليم من وعي اقتصادي، ومهارات مرنة، واستعداد للابتكار والتجريب، وهي جميعها عناصر تسهم في خلق اقتصاد ديناميكي متجدد. وهذا يستدعي إعادة التفكير في تصميم البرامج، من حيث المحتوى، وآليات التقييم، وارتباطها بالقطاعات الحيوية، وقدرتها على التكيف مع المتغيرات التقنية والتجارية.
إن الرهان على التعليم لم يعد رهانًا على المستقبل فقط، بل هو رهان على الاقتصاد ذاته. فالمناهج التي تُدرّس اليوم هي ما سيحدد جودة العمل والإنتاج خلال السنوات القادمة، وحين تُصمم البرامج التعليمية بوصفها استثمارًا طويل الأجل، فإنها تتحول إلى صمّام أمان اقتصادي، وإلى مصدر دخل غير مباشر للدولة والمجتمع.
تجارب الدول الناجحة تؤكد أن الاستثمار في التعليم هو رهان رابح، إذا ما أُحسن تصميمه وإدارته. فدول مثل فنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية لم تنهض تعليمياً لأنها تملك موارد طبيعية وفيرة، بل لأنها أعادت تعريف التعليم بوصفه محركًا اقتصاديًا. فقد ركزت على ربط المناهج بمهارات المستقبل، وأنشأت أنظمة تعليمية مرنة، وشراكات استراتيجية بين المؤسسات التعليمية وقطاعات الاقتصاد الوطني. بعضها اعتمد على تمويل مشروط بمدى توظيف الخريجين، وبعضها الآخر استخدم مؤشرات السوق لتحديث برامجه بشكل سنوي. هذه النماذج تمنحنا دروسًا عملية في كيفية بناء نظام تعليمي يستجيب لحاجات الاقتصاد، ويُسهم في إنتاج الثروة لا استهلاكها فقط. وفي السياق السعودي، فإن الاستفادة من هذه التجارب تتطلب تطوير أدوات التحليل والمتابعة والتقويم، وربط الخطط الدراسية بمسارات النمو المستقبلي للقطاعات الحيوية مثل التقنية والطاقة والسياحة والصحة.
في المملكة، ومع انطلاقة رؤية 2030، تعزز هذا التوجه بشكل واضح، إذ بدأت تتشكل ثقافة جديدة ترى في التعليم أداة إنتاج، وبدأت الكليات التطبيقية، والدبلومات المهنية، والبرامج المتخصصة في التقنية والصناعة، تلعب دورًا متناميًا في تهيئة الجيل القادم من العمالة الوطنية لسوق يتطلب الكفاءة قبل الكم، والمهارة قبل المؤهل.
ومضة:
كل برنامج تعليمي يُنتج قيمة اقتصادية… هو فرصة تنموية محققة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال