الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل حديث يتكرر عن المحتوى المحلي، يتّضح إجماع وطني على أهميته كأداة اقتصادية واستراتيجية. أصبح هذا المفهوم جزءًا من الخطاب التنموي، وارتبط بملفات كبرى مثل توطين الوظائف، وتحفيز الاستثمار، وتعزيز الأمن الصناعي. لكن عند الانتقال من المنصة إلى الميدان، تظهر تحديات قد لا تكون بارزة في المؤشرات، لكنها ملموسة في التجربة اليومية للمصنع الوطني.
الواقع يقول إن كثيراً من المصانع السعودية اجتهدت في بناء قدراتها، وتحمّلت تكاليف كبيرة لنقل التقنية وتطبيق المواصفات، واستثمرت في خطوط إنتاج متقدمة على أمل أن تجد لها موضعاً طبيعياً في المشاريع المحلية. ومع ذلك، يشعر بعض المصنعين أن الوصول إلى هذه المشاريع لا يتم دائماً بالوضوح أو الاتساق المرجو.
جزء من هذا التحدي يرتبط بطريقة تطبيق نسب المحتوى المحلي، والتي تُحتسب من مجموعة عناصر متنوعة. يمكن للمطور أو المقاول أن يحقق النسبة المستهدفة دون أن يتجه فعلياً إلى شراء منتجات مصنّعة محلياً، بل عبر تغطية النسبة من خلال بنود أخرى مثل الخدمات اللوجستية أو الأعمال الإنشائية. ورغم أهمية هذه البنود، فإن أثرها الصناعي المباشر محدود، ولا يعكس دائماً نمواً فعلياً في القدرات التصنيعية.
من المهم أن نُدرك أن بعض المشاريع الكبرى – خاصة تلك التي تُمنح لمطورين بنظام الشراكة – تخضع لمعادلات تجارية معقدة. فالمطور، بحكم مسؤوليته عن تشغيل المشروع على مدى 20 أو 25 عاماً، يبحث عن أفضل توازن بين التكلفة والعائد. في ظل هذا النموذج، قد يلجأ البعض إلى شراء مكونات رئيسية من الخارج، من أسواق ذات تكلفة أقل مثل الصين أو الهند، بدافع حماية رأس المال وتحقيق جدوى استثمارية مبكرة.
وفي الوقت ذاته، يسعى للامتثال لنسب المحتوى المحلي عبر خدمات أخرى متاحة داخل المملكة، كالأعمال الإنشائية أو التشغيلية. ورغم أن هذا التوجه مفهوم من زاوية المستثمر، إلا أن أثره على المصنع المحلي يستحق وقفة، لأن غياب التصنيع المحلي من عقود طويلة الأمد يُضعف سلسلة التوريد، ويجعل من الصعب على المصانع الوطنية أن تبني استدامة حقيقية أو تطوراً تقنياً تدريجياً.
وقد أصدرت هيئة المحتوى المحلي قوائم إلزامية في عدد من القطاعات، وهي خطوة تنظيمية مهمة أسهمت في توجيه السوق نحو المنتج الوطني. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة في التطبيق الميداني؛ إذ تُستوفى هذه الالتزامات أحياناً بالحد الأدنى، أو تُعالج بطريقة تُبقي المصنع المحلي في دائرة الانتظار بدلاً من الشراكة.
في بيئة الأعمال، لا يكفي وجود المصانع، بل يجب أن تكون جزءاً طبيعياً من دورة الشراء داخل المشاريع الكبرى. المصنع الذي استثمر في خطوط إنتاج، وتبنّى المواصفات المطلوبة، لا يبحث عن معاملة خاصة، بل عن فرصة عادلة ليُدرج ضمن خيارات التوريد. ومع تراكم التجارب التي لم يُفعّل فيها هذا الدور رغم الجاهزية، تتولد حالة من الحيرة لدى بعض المستثمرين في الصناعة: هل يُعوّل على السوق المحلي كرافد للنمو، أم تبقى العلاقة مشروطة بالاستثناء لا بالاستقرار؟
هنا تظهر أهمية إعادة قراءة أدوات المحتوى المحلي، لا بهدف تغيير الأهداف، بل لضمان أن الأثر المتحقق يعكس تلك الأهداف فعلاً. المطلوب ليس المزيد من التشريعات، بل تفعيل الموجود منها بطريقة تعزز الثقة لدى المصنع، وتخلق نمطاً من الالتزام المستقر في سلاسل التوريد، لا الالتزام المؤقت عند الضرورة فقط.
من المهم أن نذكر أن كثيراً من الجهات الحكومية والهيئات التنظيمية أظهرت وعياً كبيراً بهذه الفجوة، وبدأت خطوات عملية لمعالجتها، مثل توسيع القوائم الإلزامية، وتحسين آليات التصنيف، وتكثيف التنسيق مع الجهات الممولة للمشاريع الكبرى. وهذه مؤشرات واعدة، لكنها لا تُغني عن الحاجة لمزيد من التمكين في مستوى التنفيذ، وتحديداً عند مستوى الترسية والمنافسات.
ربما يكون التحول الحقيقي المطلوب في الثقافة الشرائية، لا في السياسات فقط. أن يُنظر إلى المصنع المحلي ليس كخيار تمليه الأنظمة، بل كأصل من أصول المشروع، يعزز استدامته، ويقوّي موثوقيته، ويختصر سلاسل التوريد، خصوصاً في بيئة عالمية باتت مضطربة من حيث الإمداد والاعتماد الخارجي.
وبين الأرقام التي تُحقَّق، والتجربة التي تُعاش، تقف المصانع في مفترق طرق. ليس لديها رفاهية الانتظار الطويل، ولا تملك أن تراهن على مشاريع لا تطرق أبوابها. بل تحتاج إلى إشارات واضحة على أن السوق الوطني يرى فيها شريكاً استراتيجياً لا مجرد رقم في تقرير الامتثال.
هذا المقال لا يهدف إلى المبالغة أو تسليط الضوء على الجوانب السلبية، بل إلى إثارة التفكير حول كيفية تحويل الجهد التنظيمي إلى أثر اقتصادي دائم. فالشراء من المصنع الوطني ليس فقط دعماً للمنتج، بل استثمار في قدرة المملكة على بناء صناعتها المستقلة، وتعزيز أمنها الصناعي، وتحقيق رؤيتها في تنمية المحتوى المحلي بوصفه خياراً استراتيجياً لا إجراءً حسابياً.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال