الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يشكّل برنامج الابتعاث الخارجي إحدى أبرز المبادرات الوطنية التي أولتها الدولة، أعزّها الله، عناية خاصة واستثمرت فيها بسخاء لبناء رأس المال البشري السعودي، وتزويد الكفاءات الوطنية بالمعارف والمهارات العالمية. ويأتي ذلك دعمًا لمسيرة التحول التنموي، وتحقيقًا لمستهدفات رؤية المملكة 2030.
ورغم النتائج المشهودة التي حققها البرنامج، إلا أن ما يواجهه من تحديات إجرائية وتنظيمية، خصوصًا ما يتصل بآلية القبول، يفرض مراجعة جادة تُعيد بناء الثقة، وتُرسّخ مبادئ العدالة والحوكمة.
ففي كل دورة تقديم، تتكرر شكاوى المتقدمين الذين لم تُقبل طلباتهم دون تبرير واضح أو تفسير كافٍ، ويُكتفى غالبًا برد مقتضب مفاده: “عدم توفر مقاعد شاغرة”. وهو ما لا يُعد مقبولًا في ظل الممارسات الإدارية الحديثة التي تقوم على الشفافية والمساءلة والحق في المعرفة. ويُعد هذا النمط من الردود مظهرًا لغموض إجرائي يُقوّض ثقة المواطنين في البرنامج، ويُبرز قصورًا في بنيته التنظيمية، وغيابًا لمبادئ العدالة التي تُعد ركيزة أساسية في توزيع الفرص العامة.
وتتجلى هذه الإشكالية في الرسائل الآلية التي تُرسل إلى المتقدمين المرفوضين، والتي تقتصر على عبارات مقتضبة مثل: “نعتذر عن قبول طلبك بسبب امتلاء مقاعد الفصل الأول من العام الأكاديمي”. ورغم أن هذه الرسائل تُدار بنظام إلكتروني منضبط، إلا أنها تكشف عن خلل جوهري في الشفافية؛ إذ لا تبيّن الأساس الموضوعي للرفض، ولا تمكّن المتقدم من معرفة ما إذا كان استبعاده ناتجًا عن نقص في الشروط، أو أولوية تخصصية، أو أسباب تنافسية. ومثل هذا الاكتفاء يُضعف الثقة المجتمعية في البرنامج، ويُعزز الانطباع بغياب إطار نظامي ينظم إجراءات القبول، ويكفل حق المتقدم في المعرفة والاعتراض.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد المتقدمين للابتعاث في بعض السنوات تجاوز 80,000 متقدم، في مقابل قبول لا يتجاوز 7,000، أي بنسبة لا تتعدى 10٪. وتُصبح هذه الفجوة أكثر حدة في ظل غياب معايير مفاضلة معلنة، وعدم تمكين المتقدمين من الاطلاع على ترتيبهم أو الطعن في قرارات الاستبعاد، مما يُعمّق الشعور بانعدام العدالة، ويُضعف الثقة بآلية اتخاذ القرار.
وتُظهر التجارب الدولية الرائدة أن الشفافية والإجراءات العادلة ليست خيارًا إداريًا، بل ضرورة تشريعية. ففي كندا، تلتزم الجهات الحكومية بنشر معايير القبول تفصيلًا، وتقديم مبررات مفسّرة لرفض الطلبات، مع إتاحة حق التظلم أمام لجنة مستقلة. أما في أستراليا، فيخضع برنامج المنح لنظام إلكتروني يبيّن تقييم المتقدمين وفق أوزان معلنة، وتُراجع الاعتراضات من جهات رقابية مستقلة كـمكتب المراجع العام. وفي سنغافورة، تتيح منصة وطنية للابتعاث تتبع حالة الطلب، ومعرفة نقاط التقييم، وتقديم الاعتراض إلكترونيًا على لجنة محايدة لا ترتبط بالجهة المانحة.
وتؤكد هذه النماذج أن العدالة والشفافية في برامج الابتعاث ليست ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة لضمان كفاءة الإنفاق العام، وتعزيز الثقة المجتمعية. وعليه، فإن تطوير البرنامج لا ينبغي أن يقتصر على زيادة المقاعد أو تنويع التخصصات، بل يتطلب إصلاحًا تشريعيًا ومؤسسيًا شاملًا. ويبدأ هذا الإصلاح بإقرار لائحة تنظيمية تفصيلية تُحدد بوضوح معايير القبول، وأوزان المفاضلة، ونِسب التخصيص بحسب القطاعات المستهدفة، وتُنشئ وحدة مستقلة للتظلمات ترتبط بجهة رقابية محايدة، وتُلزم بنشر تقارير سنوية عن أداء البرنامج وأسباب عدم القبول.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تطوير منصة إلكترونية موحدة، تتيح لكل متقدم الاطلاع على حالة طلبه ونتائج تقييمه، وتقديم اعتراضه وفق مسار واضح وشفاف. وينبغي أن تُدعم هذه المنصة بلائحة حوكمة إدارية تُلزم القائمين على البرنامج بأعلى معايير النزاهة والحياد، وتمنع تضارب المصالح في إجراءات الترشيح والمفاضلة. فكلما اتضحت القواعد، وتعززت سبل الإنصاف، وتوفرت البيانات للرقابة، ارتفعت كفاءة البرنامج، وتقلّصت الفجوة بين الانطباع والممارسة.
ولتفعيل العدالة التصحيحية، يُستحسن إنشاء لجنة فنية قانونية مستقلة، تتولى مراجعة الطلبات المرفوضة بناءً على معايير معلنة، مع تمكين المتقدم من تقديم ملاحظاته أو مستنداته التكميلية خلال فترة نظامية محددة.
وتتأكد أهمية هذا المسار الإصلاحي عند ربط الشفافية بمؤشرات الأداء والنتائج؛ فالنجاح لا يُقاس بعدد المقاعد الممنوحة فقط، بل بمدى عدالة توزيعها، ومدى قدرة مخرجات البرنامج على سد الفجوات التنموية. وهو ما يتطلب مساءلة دورية تضمن حوكمة القرار، وتمكين الرقابة المجتمعية والرسمية عليه.
ويُستحسن كذلك أن تتضمن اللائحة التنظيمية بندًا يُلزم الجهة المختصة بنشر تقرير سنوي يُوضح توزيع المقاعد بحسب التخصصات والمناطق والمستوى الأكاديمي، وعدد الاعتراضات ومآلاتها، بما يُعزز الشفافية والمساءلة المؤسسية.
ختامًا، فإن الابتعاث ليس مكرمة فردية، بل مشروع وطني استراتيجي لبناء القدرات. وإدارته خارج إطار الحوكمة لا يُهدر فقط فرصة مستحق، بل يُقوّض عدالة المنظومة، ويُضعف الأثر العام. لذا، فإن مستقبل الابتعاث يُبنى بإرساء قواعد الإنصاف، وتفعيل الشفافية، وتمكين الرقابة المؤسسية والمجتمعية على حد سواء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال