الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
خلال العقدين الماضيين، شهدت شركات التقنية المالية نمواً سريعاً جعلها تحتل مكانة بارزة إلى جانب المؤسسات المالية التقليدية. ويعزى هذا التقدم بدرجة كبيرة إلى قدرتها على توظيف التقنية لتقديم خدمات وحلول مالية مبتكرة وسهلة الوصول. ومع تزايد اندماج هذه الشركات في المنظومة المالية العالمية، تبرز الحاجة إلى متابعة الاتجاهات الرئيسية التي تؤثر في مسارها المستقبلي، مثل أداء السوق، وتغير سلوك العملاء، وتطور البيئة التنظيمية، إضافة إلى مسارات التمويل وابتكارات التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي.
كشف تقرير “مستقبل التقنية المالية العالمي 2025″، الصادر عن مركز كامبريدج للتمويل البديل بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، عن تحليل شامل لاتجاهات قطاع التقنية المالية على مستوى العالم. يستند التقرير إلى بيانات ميدانية من مئات الشركات في مختلف المناطق، ويسلط الضوء على العوامل التي تدعم أو تعيق نمو القطاع، مثل البيئة التنظيمية، الشراكات مع المؤسسات التقليدية، التمويل، والابتكار التقني. كما يناقش دور التقنية المالية في تعزيز الشمول المالي، ويستعرض آفاق التطور المستقبلي في ظل التحول نحو نماذج أكثر استدامة وربحية.
يستعرض هذا المقال أبرز ما تضمنه التقرير من نتائج ومحاور، مع تحليل لأهم ما تعنيه من فرص وتحديات أمام الفاعلين والمهتمين في المنظومة المالية. التقرير يشير إلى أن أداء السوق في قطاع التقنية المالية شهد تباطؤاً في نمو عدد العملاء الجدد مقارنة بالسنوات السابقة، لكنه قابل ذلك بارتفاع مستمر في معدلات الإيرادات والأرباح. هذا التحول يعكس تغيراً جوهرياً في عمل القطاع يمكن قراءته من عدة زوايا. فهبوط النمو في عدد المستخدمين الجدد لا يعني بالضرورة ضعفاً في الطلب، بل قد يشير إلى تراجع فرص التوسع السريع في الأسواق المشبعة، كما ان العديد من شركات التقنية المالية باتت تركز على تحسين تجربة المستخدم وتوسيع سلة الخدمات للعملاء الحاليين بدلا من مجرد الاستحواذ على عملاء جدد، وهو ما يعد توجها استراتيجياً جيد.
النمو الثابت في الإيرادات والأرباح يعكس أن الشركات أصبحت تولد قيمة مالية أكبر من كل عميل، ما يدل على نجاحها في تحسين نماذج العمل وتقديم منتجات مالية مخصصة وتحسين معدلات الولاء والاحتفاظ بالعملاء الحاليين. ومن هنا يمكن القول ان أداء السوق كما ورد في التقرير لا يظهر قطاعاً في حالة تراجع، بل قطاعاً يمر بمرحلة انتقالية من الكم إلى الكيف، ومن الاندفاع إلى التوازن، وهو ما يعتبر علامة نضج لا ضعف. فالتقنية المالية الآن ليست في سباق نمو فقط، بل في سباق بقاء واستدامة والأكثر تكيفا مع تغيرات السوق هو من سيقود المرحلة القادمة.
حدد التقرير عدداً من العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على قدرة شركات التقنية المالية على النمو، تنقسم إلى عوامل داعمة وأخرى معيقة. من أبرز العوامل الداعمة استمرار الطلب من قبل المستهلكين، حيث أظهر التقرير أن الإقبال المتزايد على خدمات القطاع يشكل محركاً رئيسياً لنموه. ويُعد توفر الكفاءات البشرية الماهرة من عناصر التمكين الأساسية، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والتقنيات المالية المتقدمة. كما يُعد وجود بيئة تنظيمية ملائمة عاملاً مهماً لدعم الابتكار، حيث تُعتبر الأطر التنظيمية الرقمية، مثل البيئات التجريبية، أدوات فعالة لتعزيز النمو. وتسهم البنية التحتية الرقمية بدورها في تسريع توسع الشركات وتحسين كفاءتها التشغيلية.
وتمثل الشراكات بين شركات التقنية المالية والمؤسسات المالية التقليدية أحد المحركات الرئيسية لنمو القطاع. فبدلاً من المنافسة المباشرة، تتجه شركات التقنية المالية بشكل متزايد نحو التعاون مع البنوك وشركات التأمين وغيرها من المؤسسات التقليدية للاستفادة من خبرتها، وبنيتها التحتية، وثقة العملاء بها. في المقابل، توفر التقنية المالية لهذه المؤسسات حلولاً تقنية مرنة وسريعة تعزز الابتكار وتجربة المستخدم. هذا التكامل يُسهم في تسريع تبني الخدمات الرقمية، ويقلل من تكاليف التوسع، كما يساعد الجانبين على التكيف مع المتطلبات التنظيمية المعقدة من خلال تبادل المعرفة والامتثال المشترك. وتُعد هذه الشراكات اليوم نموذجا استراتيجياً رئيسياً في تطور النظام المالي العالمي.
من أبرز العوامل التي تعيق نمو شركات التقنية المالية في العديد من الأسواق الناشئة ضعف الوعي المالي والرقمي لدى المستخدمين. فكثير من الأفراد لا يمتلكون المعرفة الكافية لفهم كيفية استخدام الخدمات المالية الرقمية أو تقييم المخاطر المرتبطة بها، مما يؤدي إلى ترددهم في الاعتماد على هذه الحلول. ومن المعوقات أيضاً تحديات التمويل، حيث انتقل القطاع من فترة شهدت وفرة في رأس المال الاستثماري إلى مرحلة تتسم بمزيد من الحذر والانضباط من جانب المستثمرين. ونتيجة لذلك، تواجه العديد من الشركات صعوبات أكبر في الحصول على التمويل، خاصة في المراحل المبكرة أو في الأسواق ذات المخاطر المرتفعة. وقد دفع هذا الواقع بعض الشركات إلى التركيز على تحسين نماذج أعمالها، والسعي لتحقيق الربحية، وتقليل الاعتماد على جولات التمويل المستمرة. ومع ذلك، لا تزال الشركات التي تقدم حلولاً مبتكرة في مجالات ذات أولوية مثل الشمول المالي، والدفع الرقمي، والخدمات المضمنة، تحظى باهتمام المستثمرين.
يختتم التقرير رؤيته المستقبلية بتأكيد على أن قطاع التقنية المالية يتجه نحو مرحلة أكثر نضجاً واستدامة، حيث سيعتمد النجاح على قدرة الشركات على تحقيق التوازن بين الابتكار التقني، والامتثال التنظيمي، والربحية طويلة الأجل. كما يُتوقع أن تتسارع الشراكات بين التقنية المالية والمؤسسات التقليدية، ويزداد التركيز على الفئات غير المخدومة، مع توسع في استخدام الذكاء الاصطناعي وتكامل الخدمات المالية في قطاعات متعددة. ويرى التقرير أن المستقبل سيتطلب من صناع القرار والمستثمرين والمبتكرين العمل المشترك لتوفير بيئة تنظيمية مرنة، وتعزيز الثقة، وبناء البنية التحتية اللازمة، حتى يتمكن القطاع من مواصلة لعب دوره الحيوي في تطوير النظام المالي العالمي.
ومما سبق يمكننا القول انه مع انتقال قطاع التقنية المالية من مرحلة النمو المتسارع إلى مرحلة النضج والاستدامة كما يذكر التقرير، تتضح لنا ملامح المستقبل القائم على التوازن بين الابتكار والمسؤولية. فنجاح التقنية المالية في السنوات المقبلة لن يُقاس فقط بسرعة التوسع أو عدد المستخدمين، بل بقدرتها على تقديم حلول موثوقة، ومتكاملة ضمن النظام المالي الأوسع. وسيتطلب ذلك تعزيز الشراكات بين شركات التقنية المالية والمؤسسات التقليدية، وتوسيع نطاق الشمول المالي، وتوظيف الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال