الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين يتعلق الأمر بالحصول على تمويل أو دعم مالي، فإن أول ما تلتفت إليه الجهات المانحة هي “الجدارة الائتمانية” هذا المفهوم الذي أصبح اليوم بوابة الدخول أو الحرمان من فرص مالية واستثمارية حقيقية فلم تعد الجدارة الائتمانية مجرد أداة مصرفية داخلية بل أصبحت انعكاسًا حقيقيًا لمسؤولية الفرد أو المنشآت في التعامل مع الالتزامات المالية وميزانًا لثقة المؤسسات المالية في قدرتهما على السداد.
ومع أن هذا المفهوم يبدو تقنيًا للوهلة الأولى إلا أنه مرتبط ارتباطًا مباشرًا بسلوك الأفراد اليومي والقرارات الائتمانية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة الاستراتيجية بدءًا من سداد فاتورة جوال أو قرض سيارة إلى تمويل مصنع أو توسعة مشروع تجاري فما المقصود فعليًا بالجدارة الائتمانية؟ وما العوامل التي تصنعها أو تهدمها؟ وكيف تُقاس؟ ولماذا تؤثر في حياتنا بهذا الشكل الواسع؟ هذا ما سنتناوله بدقة ووضوح في هذا المقال.
أولًا: ما المقصود بالجدارة الائتمانية؟
الجدارة الائتمانية، ببساطة، هي مستوى الثقة المالية التي تمنحها المؤسسات المالية لأي شخص أو منشأة، بناءً على قدرتهم المتوقعة على سداد ما عليهم من ديون إنه سؤال واحد يراود عقل كل جهة تمويل: هل يستطيع هذا الشخص سداد ما نمنحه له؟ وهل سيفعل ذلك في الوقت المحدد؟
وللإجابة على هذا السؤال، لا تعتمد الجهات المقرضة على الحدس أو الانطباع، بل تستند إلى مجموعة دقيقة من البيانات، مثل: سجل السداد السابق للفرد أو المنشأة، والالتزامات الحالية (قروض، وبطاقات، وتمويلات أخرى)، والأصول المملوكة، ومصادر الدخل، والتصنيف أو الدرجة الائتمانية.
فتشكّل هذه المعلومات ما يُعرف بالملف الائتماني، وهو المصدر الأول الذي يُبنى عليه قرار الموافقة على التمويل أو رفضه.
ثانيًا: أين تبدأ الجدارة الائتمانية للأفراد؟ وأين تؤثر؟
بالنسبة للأفراد، تبدأ الجدارة الائتمانية من اللحظة التي يحصل فيها الشخص على أول منتج تمويلي، سواء كان بطاقة ائتمان أو قرضًا شخصيًا أو حتى تمويل شراء جهاز جوال ومنذ ذلك الحين، تبدأ رحلة التقييم والمراقبة المستمرة لسلوكه الائتماني، مثل: هل يسدد في الوقت المحدد؟ هل يتجاوز الحد الائتماني المسموح له؟ هل يتأخر عن السداد؟ وكم مرة؟
وهذا السلوك هو ما يُكوّن صورته الائتمانية التي تراها البنوك عند كل طلب جديد.
ولكن المدهش أن أثر الجدارة لا يتوقف عند حدود التمويل فقط، بل يمتد إلى: شروط القرض (الفائدة – الدفعة المقدمة – مدة السداد)، ونوع القروض المتاحة (قرض شخصي – تمويل سيارة – بطاقات بلاتينية)، وإمكانية الحصول على تأمين بشروط ميسّرة، وحتى القبول في بعض الوظائف التي تتطلب سجلًا ائتمانيًا نظيفًا.
وكلما كانت الجدارة قوية، كانت الحياة المالية أسهل وأكثر مرونة وكلما تراجعت ضاقت الخيارات وارتفعت التكاليف وانخفضت الثقة.
ثالثًا: الجدارة الائتمانية للمنشآت: أداة نمو أم قيد تمويلي؟
المنشآت مثل الأفراد تحتاج إلى إثبات جدارتها الائتمانية عند طلب أي تمويل: تشغيل، أو توسعة، أو شراء معدات، أو حتى عند الدخول في شراكات استراتيجية او جولات استثمارية .
لكن ما يُقيّم لدى الشركات يختلف قليلًا، إذ يُنظر إلى: سلامة السجل الائتماني للمنشأة وأداءها المالي في السنوات الأخيرة، وطريقة إدارتها للتدفقات النقدية، ومستوى الالتزام الضريبي، ونوعية الضمانات التي تقدمها، ووجود خطة عمل واضحة واقعية.
وتُصبح الجدارة الائتمانية هنا أداة استراتيجية؛ لأنها تؤثر في: قدرة الشركة على المنافسة، وسرعة النمو، وقدرتها على جذب مستثمرين أو شركاء، واستحقاقها للدخول في المناقصات والمشاريع الكبرى، والحصول على تقييم إيجابي في شركات المعلومات الائتمانية المرخصة مثل “بيان”.
واللافت للانتباه أن التمويل الجماعي بالدين يعتمد على الجدارة الائتمانية لتحديد درجات المخاطر، وتقديم بيانات شفافة للمستثمرين وفقًا لمادة (24) من قواعد البنك المركزي.
رابعًا: ما الذي يصنع الجدارة الائتمانية؟ (نموذج 5C)
لنفهم الجدارة الائتمانية من الداخل، لا بد أن نتعرف على النموذج الأكثر استخدامًا عالميًا، والمعروف باسم نموذج 5 C. ويُستخدم هذا النموذج لتقييم قدرة الأفراد والمنشآت على السداد، ويستند إلى خمسة عناصر متكاملة:
ويقصد به مدى التزام الشخص أو الجهة بسداد الديون في الماضي هنا تُؤخذ في الحسبان: سلوك الدفع التاريخي، والانضباط المالي، والالتزام الأخلاقي والمهني، والسمعة في المجتمع التجاري أو المصرفي.
إنه الجانب غير الرقمي من الجدارة، لكنه في غاية الأهمية. فحتى مع الدخل المرتفع، إذا كانت هناك سابقة تأخير أو تهرب، يُخصم من هذا العنصر.
ويقيس القدرة المالية الحقيقية على سداد التمويل، من خلال مقارنة الدخل مقابل الالتزامات الحالية، والتدفقات النقدية (بالنسبة للمنشآت)، والاستقرار المهني أو التشغيلي.
البنك لا يهمه فقط كم تكسب، بل: هل ما تكسبه يكفي لتغطية التزاماتك الجديدة والحالية؟
العنصر الذي يعبّر عن مدى امتلاكك لأصول أو موارد احتياطية. مثل: هل لديك حسابات ادخار؟ أم كل دخلك يذهب للمصروفات؟ هل تملك عقارًا؟ سيارة؟ أصولًا استثمارية؟
ولدى المنشأة: ما حجم الأصول الثابتة؟ وهل لديها مصادر دخل أخرى مستقلة عن التمويل؟ فكلما كان رأس المال أقوى؛ زادت ثقة الجهة الممولة.
الضمانات التي تقدمها مقابل التمويل، سواء كانت كفالة غرم وأداء اوعقارًا، أو مركبة، أو وديعة أو أي أصل يمكن استرداده واعادة بيعه
فوجود ضمانات قوية لا يعني فقط تقليل المخاطر، بل قد يُسهم في خفض الفائدة وتحسين شروط العقد.
آخر عنصر لكنه لا يقل أهمية. يتم تقييم الوضع الاقتصادي العام، وحالة القطاع الذي تنتمي إليه، والقوانين السائدة، ونسبة التضخم، وأي متغيرات سياسية أو مالية قد تؤثر على قدرة السداد في المستقبل.
فحتى مع جدارة داخلية قوية، إذا كان السوق متقلبًا أو القطاع يواجه اضطرابات، قد يُعاد النظر في قرار التمويل.
خامسًا: كيف تُقاس الجدارة الائتمانية بشكل عملي؟
تُقاس الجدارة الائتمانية من خلال مزيج من الأدوات والتقارير والتحليلات، وتعتمد الجهات المالية على:
وهو سجل يحتوي على كل تفاصيل تاريخك الائتماني: القروض السابقة، والالتزامات القائمة، وحالات التأخير أو التخلف، والجهات التي قدمت لك تمويلًا، والمبالغ الممنوحة والمسددة والمتأخرة.
وهي رقم من ثلاث خانات تعبّر عن حالتك الائتمانية، وتتراوح عادةً بين:
فكلما ارتفعت الدرجة؛ زادت فرصك في الحصول على تمويل بشروط أفضل.
وتُحسب بقسمة إجمالي التزاماتك الشهرية على دخلك الشهري. فكلما كانت النسبة أقل من 40%، كانت أفضل.
وهي النسبة التي تستخدمها من الحد المتاح لك في بطاقاتك الائتمانية. فمن الأفضل أن تبقى تحت 30%.
فالحسابات القديمة النشطة تعطي انطباعًا بالاستقرار والانضباط.
سادسًا: التحديات التي تواجه الأفراد والمنشآت في بناء الجدارة
في مسار بناء الجدارة الائتمانية، يواجه الأفراد مجموعة من التحديات المتداخلة التي قد تُضعف موقفهم المالي أمام الجهات الممولة، وأبرزها التأخر غير المقصود في سداد الالتزامات نتيجة ظروف طارئة خارجة عن الإرادة ويضاف إلى ذلك ضعف الوعي بتأثير بعض التصرفات البسيطة، مثل التأخر في سداد فاتورة جوال أو تجاوز الحد الائتماني. كما يُعد الاعتماد المفرط على التمويل دون وجود خطة واضحة للسداد مؤشرًا سلبيًا يعكس تخطيطًا ماليًا هشًا، ويتقاطع ذلك مع التحدي الأكبر المتمثل في ضعف الثقافة الائتمانية لدى كثير من الأفراد، مما يجعلهم يتعاملون مع المنتجات المالية بعشوائية تضر بسمعتهم الائتمانية على المدى البعيد.
وعلى الجانب الآخر، لا تقلّ التحديات التي تواجهها المنشآت في بناء الجدارة الائتمانية تعقيدًا، بل إنها تتسم بعمق أكبر نظرًا لتعدد أطراف الإدارة وتشعب الأنشطة إذ إن سوء الإدارة النقدية، قد يؤدي إلى اختناقات تمويلية تُصنف كتعثر في السداد كما أن قلة الإفصاح المالي أو ضعف الشفافية في تقديم البيانات الدقيقة يُفقد المنشأة ثقة المقرضين، ويخلق انطباعًا سلبيًا بشأن ملاءتها المالية ويُضاف إلى ذلك اعتماد بعض المنشآت على تمويلات قصيرة الأجل لتغطية احتياجات طويلة الأجل كما أن غياب الخطط التشغيلية الواقعية عند التقدم للحصول على التمويل يُفقد الطلب مصداقيته، ويجعل الجهة المقرضة أكثر تحفظًا في منح الثقة الائتمانية.
وفي الحالتين، فإن نقص البيانات أو ضعف التوثيق هو عدو الجدارة الأول، ويُفسَّر من قبل المقرضين على أنه “خطر محتمل”، حتى لو لم يكن كذلك.
سابعًا: كيف تحسّن جدارتك الائتمانية بذكاء؟
سواء كنت فردًا يسعى إلى تحسين فرصه في الحصول على تمويل، أم شركة تطمح إلى تعزيز موقعها التمويلي فإن بناء الجدارة الائتمانية يظل هدفًا ممكنًا ومتاحًا للجميع، شريطة الالتزام بخطوات دقيقة وعملية:
فبالنسبة للأفراد، تبدأ رحلة بناء الجدارة من الأساسيات التي قد تبدو بسيطة لكنها محورية، مثل سداد الفواتير في مواعيدها دون تأخير، والحرص على مراجعة التقرير الائتماني بشكل دوري لتصحيح أي أخطاء قد تضر بتصنيفهم دون وجه حق. كما يُنصح بعدم استخدام كامل الحد الائتماني المتاح، إذ إن تجاوز هذه النسبة يُفسر على أنه ضغط مالي متصاعد. كذلك فإن الحفاظ على بطاقات ائتمان نشطة وقديمة يعكس استقرارًا في السلوك المالي، في حين أن فتح حسابات ائتمانية متعددة خلال فترة قصيرة يثير علامات استفهام لدى المقرضين حول دوافع التمويل ومدى قدرة الفرد على الإدارة.
أما المنشآت، فإن بناء جدارتها يبدأ من الداخل، من خلال إعداد تقارير مالية دورية دقيقة وموثقة تعكس بوضوح حقيقة الأداء المالي. ويُعد التخطيط الذكي للتدفقات النقدية عنصرًا لا غنى عنه لتجنب التعثر في السداد، إلى جانب أهمية الفصل التام بين الحسابات الشخصية والإدارية، لضمان الشفافية والمصداقية. كذلك يجب أن تتعامل الشركات مع شركات المعلومات الائتمانية بشكل استباقي، لا كرد فعل، وأن تسرع عند التقدم لأي تمويل خطة تشغيل واضحة ومبنية على أسس واقعية.
فالجدارة، سواء على مستوى الأفراد أو المنشآت لا تُبنى بقرارات طارئة أو أرقام مؤقتة، بل تُبنى بالممارسة اليومية المنتظمة وبالانضباط المالي طويل الأمد لا بمجرد زيادة في الدخل أو الحصول على تمويل جديد دون رؤية ناضجة.
وختامًا، الواقع المالي يتطور بسرعة، فمن الذكاء أن يتطور معه الوعي الائتماني؛ بأن تدير مالك كما تدير سمعتك، وأن تجعل من كل معاملة مالية فرصة جديدة لتقوية ثقتك لدى الآخرين – فكل فاتورة تُسدّد بدقة، وكل التزام يُحترم، هو لبنة إضافية في بناء صورتك الائتمانية، التي ستفتح لك، أو لمنشأتك، أبوابًا لا تفتح إلا للمحترفين في الإدارة، لا للمغامرين في الإهمال.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال