الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعد السياحة إحدى الركائز الاستراتيجية لجهود تنويع الاقتصاد الوطني في المملكة العربية السعودية، انطلاقًا مما تزخر به من مقومات جغرافية وثقافية واقتصادية. غير أن تحويل هذه الإمكانات إلى قيمة اقتصادية مستدامة لا يتحقق عبر تطوير البنية التحتية أو الحملات الترويجية فحسب، بل يتطلب قبل كل شيء تأسيس منظومة تشريعية متكاملة، تواكب التحولات الاقتصادية، وتحفّز الاستثمار، وتحمي حقوق السائح، وتُعزز الثقة لدى المستثمر والمستهلك على حد سواء. ومن هنا، يغدو إصلاح البيئة التشريعية للقطاع السياحي ضرورة تنموية عاجلة، تسعى إلى بناء قطاع مزدهر يجمع بين الجاذبية العالمية والهوية الثقافية للمملكة.
وفي هذا الإطار، شهدت المملكة خلال السنوات الأخيرة خطوات تشريعية وتنظيمية محورية، من أبرزها تنظيم التأشيرات السياحية، وتحديث نظام السياحة، وإنشاء وزارة السياحة والهيئة السعودية للسياحة ومجلس التنمية السياحي وصندوق التنمية السياحي. وقد أرست هذه المنظومة صلاحيات موسعة للوزارة، ونظمت عبر لوائحها التنفيذية قطاعات الإيواء ووكالات السفر والإرشاد السياحي، وفتحت المجال للملكية الأجنبية، وقلّصت القيود البيروقراطية، ما ساهم في خلق بيئة أكثر جذبًا واستقرارًا للمستثمرين والمستفيدين.
ورغم أهمية هذه التحولات، فإن نجاحها لا يُقاس بالأرقام فحسب، بل بمدى انعكاسها على جودة التجربة السياحية والأثر التنموي المستدام. فقد استهدفت رؤية السعودية 2030 رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى 10% وتوفير أكثر من مليون وظيفة. وتشير بيانات وزارة السياحة إلى أن عام 2024 شهد 115.9 مليون سائح، منهم 29.7 مليون وافد (26%) و86.2 مليون محلي (74%)، بزيادة نسبتها 6% عن 2023، بينما بلغ الإنفاق السياحي 284 مليار ريال، استحوذ السياح الوافدون على 59.4% منه. ورغم أهمية هذه المؤشرات، إلا أن تحويلها إلى أثر نوعي مستدام يتطلب إصلاحات تشريعية أعمق تعزز استدامة القطاع وتحقق توازنًا تنمويًا حقيقيًا.
ويقابل هذا النمو تصاعد في حجم الإنفاق الحكومي الموجه للقطاع، سواء من خلال مشاريع البنية التحتية، أو الحملات الترويجية، أو تأسيس الهيئات والمبادرات النوعية. وقد انعكس هذا الدعم في إطلاق مشروعات كبرى مثل “الدرعية”، و”العلا”، و”القدية”، و”البحر الأحمر”، وغيرها من الوجهات التي تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة السياحية للمملكة. غير أن تحقيق العوائد المرجوة – لا سيما في التوظيف والمساهمة الاقتصادية – يقتضي تقييمًا دقيقًا لكفاءة هذا الإنفاق، ومواءمته مع مؤشرات أثر قابلة للقياس، بما يضمن تحويل كل ريال منفق إلى قيمة مضافة حقيقية، ضمن آليات مساءلة وشفافية واضحة.
وفي هذا السياق، يُعد توطين الوظائف من أبرز التحديات الهيكلية، إذ لم تتجاوز نسبة التوطين في القطاع السياحي 25%. ويستوجب ذلك إعادة النظر في الحوافز التشريعية وربطها بمعدلات التوظيف المحلي، وتوسيع نطاق التدريب المهني، وتفعيل دور الكليات والمعاهد السياحية لتمكين الكوادر الوطنية. ومن المقترحات الفعالة، ربط تصنيف المنشآت السياحية بمؤشرات أداء تشمل نسب التوطين والتدريب، بما يعزز العدالة الوظيفية ويكرّس الدور التنموي للقطاع.
رغم النمو في أعداد الزوار، إلا أن التنوع الجغرافي والثقافي في المملكة لم يُستثمر بعد كما ينبغي، إذ تُظهر بيانات 2024 تمركزًا كبيرًا للسياحة الوافدة من دول عربية وإسلامية مثل مصر، باكستان، والكويت، في مقابل ضعف الإقبال من الدول الأوروبية والأمريكية، رغم التسهيلات التأشيرية. ويُعزى هذا القصور إلى غياب تصنيفات تشريعية لأنماط السياحة غير الدينية كالثقافية والبيئية والعلاجية، وضعف المواءمة الخدمية مع متطلبات هذه الشرائح. كما لم تُستثمر بعد بشكل ملحوظ مقومات المملكة في أنماط واعدة مثل سياحة المغامرات، أو الاستشفاء، أو المعارض والمؤتمرات، مما يتطلب تطوير منتجات سياحية متنوعة مدعومة بأطر تشريعية وتنظيمية مرنة، تراعي القيم الوطنية وتستجيب للطلب العالمي المتغير.
في المقابل، يُعد ارتفاع أسعار السفر والإقامة أحد أبرز العوائق أمام تنمية السياحة الداخلية وجذب السائح الأجنبي. ففي ظل غياب أدوات رقابية فعالة، تبدو الأسعار – خصوصًا في المواسم – أعلى من وجهات منافسة مثل دبي أو إسطنبول. لذا، يُوصى بإصدار تشريع متكامل لحوكمة تسعير الخدمات السياحية، يوازن بين حرية السوق وحقوق المستفيدين، ويحول دون الممارسات الاحتكارية أو التفاوت غير المبرر في الأسعار، خاصة في المناطق السياحية الناشئة، ويُلزم بالإفصاح المسبق عن الأسعار والضمانات، ويُرسّخ مبدأ العدالة التعاقدية من خلال آليات رقابة ومساءلة.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تطوير آليات الحوكمة عبر الاستعانة بجهات رقابية مستقلة عن الجهات المرخصة، مثل جمعية حماية المستهلك أو المركز الوطني للتفتيش والرقابة، مع إلزام المنشآت السياحية بالربط الإلكتروني المباشر بها لضمان الامتثال وتحقيق العدالة التنافسية.
كما يُوصى بفصل مهام الرقابة عن الترخيص، وإنشاء دوائر قضائية متخصصة داخل المحاكم التجارية للنظر في المنازعات السياحية، أو مراكز صلح وتحكيم تتيح تسويات سريعة وموثوقة تعزز ثقة المستثمرين وتُقلل كلفة التقاضي. فوضوح القواعد النظامية وسرعة البت في النزاعات يُعدّان من مرتكزات البيئة السياحية الجاذبة.
وعلى مستوى المدن، تُظهر تجربة الرياض – رغم مكانتها السياسية والاقتصادية – فجوة واضحة في جاذبيتها السياحية؛ إذ لم يتجاوز عدد زوارها الدوليين 2.9 مليون، مقارنة بـ17.6 مليون زائر محلي. ويُعزى هذا التفاوت إلى غياب هوية سياحية متميزة، ومحدودية الفعاليات الكبرى، وضعف الربط المؤسسي بين المواقع الثقافية والتراثية. لذا، يُوصى بإصدار تشريع خاص بالمسارات السياحية الحضرية، يربط بين المقومات المحلية، ويُشجّع شركات السفر العالمية على تطوير عروض سياحية مخصصة للمدينة، ويُمكّنها من التحول إلى مركز إقليمي للسياحة الحضرية المتجددة.
وقد أثبتت تجارب دول مثل دبي وسنغافورة وفرنسا أن نجاح المدن السياحية لا يرتكز فقط على البنية التحتية، بل على منظومة تشريعية مرنة، وقضاء متخصص، ومنصات رقمية فعالة للخدمات والتظلّمات. وفي هذا السياق، يُعد استلهام التجارب الناجحة عاملًا أساسيًا لبناء بيئة تشريعية سياحية موثوقة في المملكة، تستجيب للمتغيرات وتُكرّس ثقة المستثمرين والزوار.
أما على صعيد التنمية الإقليمية، فلا تزال بعض المناطق كالجوف ونجران تعاني من تهميش تشريعي رغم امتلاكها مواقع تراثية فريدة مثل الأخدود ودومة الجندل وآبار حمى. ويتطلب تنمية هذه المناطق أدوات تشريعية خاصة، وهيئات تطوير مستقلة، وآليات تمكين تشريعية وتنظيمية موجهة، تضمن عدالة توزيع الحوافز والبنية التحتية، كما تنص المادة (22) من النظام الأساسي للحكم على أن التنمية تتم “وفق خطة علمية عادلة”.
وفي هذا السياق، يُعد منتدى نجران للاستثمار – الذي عُقد في يونيو 2025 – نموذجًا وطنيًا مهمًا لدعم المناطق الأقل نموًا، حيث أبرز المشاركون أهمية تطوير تشريعات تُراعي الخصائص المحلية، وتفعيل أدوات التمويل التنموي، وربط هذه المناطق بمسارات سياحية وطنية متكاملة، بما يسهم في تمكين المجتمعات وتعزيز الهوية.
ولضمان استدامة هذه الجهود، يُوصى بإنشاء وحدة مستقلة أو لجنة دائمة للسياسات التشريعية السياحية تتبع مجلس التنمية السياحي، تُعنى برصد الفجوات التشريعية، وتحديث اللوائح استنادًا إلى مؤشرات الأداء، وتحقيق المواءمة مع أفضل الممارسات الدولية، بما يضمن تراكم المعرفة واستدامة الأثر، ويحوّل العمل التشريعي إلى منظومة مرنة تحفّز الجودة والشفافية.
ختامًا، فإن تطوير السياحة في المملكة لا يتوقف عند تحقيق الأرقام، بل في القدرة على تحويل هذه الجهود إلى أثر واقعي يلمسه المواطن والزائر على حدٍّ سواء. ويأتي التشريع هنا بوصفه العنصر الحاسم، لا كإجراء تنظيمي فقط، بل كأداة تضمن التوازن بين التوسع السياحي والاستدامة، وتحول السياسات من وعود إلى نتائج، ومن رؤية إلى واقع ملموس ومستدام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال