الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم تزداد فيه التحديات البيئية وتتعقد شبكات الخدمات، تبقى إدارة المياه من أعقد الملفات وأكثرها حساسية. فما لا يُقاس بدقة لا يمكن فهمه، وما لا يُفهم لا يمكن تطويره. نحن نتحدث عن موارد حيوية تتطلب أدوات متقدمة، بيانات آنية، ورؤية تشغيلية متكاملة. فهل تحظى شبكات المياه في بلادنا بهذا الاهتمام الرقمي الذكي؟ أم أننا ما زلنا ندير مواردنا بناءً على معطيات متأخرة وغير كاملة؟
لعل السعودية، برغم استثماراتها الضخمة في تحلية المياه وشبكات التوزيع، لا تزال أمام تحدٍ كبير يتمثل في قدرة البنى التشغيلية على متابعة تدفق المياه، كشف التسريبات، وضبط استهلاك المستفيدين بدقة وفعالية.
في المدن العالمية المتقدمة، تتصدر أنظمة القياس الرقمي الذكي المشهد في تحسين أداء شبكات المياه. مثال ذلك مدينة بورتو في البرتغال، التي اعتمدت نظام H2PORTO الذي يربط أكثر من 20 ألف حساس رقمي يراقب توزيع المياه والصرف الصحي والفيضانات، مما ساعد على تقليل انقطاع الخدمة بنسبة 29% خلال عام واحد فقط.
وفي بنغالور، إحدى أكبر المدن الهندية، تم تطبيق نظام SCADA منذ التسعينات، ما مكّنها من السيطرة الفورية على التسربات، وتحسين عمليات الضخ، وتقليل الفاقد بشكل ملحوظ. أما سنغافورة، فنجحت في خفض نسبة فاقد المياه إلى أقل من 5%، بفضل نظم العدادات الذكية، ورصد استهلاك المياه في الوقت الحقيقي، وتحفيز المستهلكين على ترشيد الاستهلاك.
أما عندنا في السعودية، فما زالت التحديات قائمة على مستوى تكامل البيانات والرصد اللحظي. الكثير من العمليات ما زالت تعتمد على قراءة يدويّة للعدادات، أو تلقي البلاغات بعد حدوث المشكلة. هذا الأمر يجعل الاستجابة بطيئة، ويؤدي إلى خسائر كبيرة في الموارد، خصوصًا في ظل ارتفاع الطلب المستمر على المياه في المدن المتسارعة النمو.
إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى محطات تحلية إضافية، ولا فقط إلى شبكات توزيع جديدة، بل إلى نموذج تشغيلي ذكي يُدار عبر بيانات دقيقة وفورية، يربط بين كل نقاط التوزيع، ويتيح للجهات المسؤولة اتخاذ قرارات استباقية تمنع التسربات، وتوزع المياه بكفاءة عالية، وتخفض الفاقد.
تقنيات مثل العدادات الذكية، التوأم الرقمي للبنى التحتية، الذكاء الاصطناعي في مراقبة واختبار الشبكات، والأقمار الصناعية للكشف المبكر عن تسربات المياه، كلها أدوات لم تعد من الكماليات، بل من الضروريات التي تساعد على ترشيد الاستهلاك وتحسين الخدمات.
تجربتنا العملية تشير إلى فجوة واضحة بين حجم الاستثمارات في البنية التحتية وبين حجم الاستفادة الحقيقية من البيانات التشغيلية. أحد المختصين في قطاع المياه أخبرني: “لدينا الشبكات، ولدينا المعدات، لكن ما نحتاجه حقًا هو الرؤية اللحظية التي تُمكّننا من معرفة ما يحدث في كل جزء من الشبكة في كل لحظة”.
هذا يعني أن المستقبل يتطلب ليس فقط المزيد من الاستثمار في المعدات، بل في تطوير أنظمة الإدارة والتشغيل، ودمج البيانات، ورفع مستوى التنسيق بين الجهات المختلفة. هذا التطوير لا يقل أهمية عن أي مشروع تحلية أو شبكة ضخ جديدة.
في واقع الأمر، إن نموذج إدارة المياه الذكي هو عنصر رئيس في تحقيق الاستدامة المائية، وتقليل الاعتماد على مصادر متجددة مكلفة، وتحقيق رضا المستهلك النهائي.
لا ننسى أن النمو السكاني والتوسع العمراني في السعودية يتطلبان استراتيجيات ذكية في التخطيط والرقمنة، لتجنب أزمة أكبر في المستقبل، يمكن أن تؤثر على جودة الحياة والاقتصاد الوطني.
في المجمل، القطرة التي لا تُقاس لا يمكن تحسينها، وهذا المبدأ هو الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه تطوير أنظمة إدارة المياه في المملكة. تطوير هذا الجانب الرقمي والبياني سيمكننا من تقليل الفاقد، وضمان استدامة الموارد، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب، بما يضمن مستقبلاً أكثر أمانًا لمواردنا الحيوية.
إن الاستثمار في البيانات والتشغيل الذكي هو استثمار في مستقبل أكثر مرونة واستدامة، وليس رفاهية تضاف على قائمة المشاريع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال