الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مثلما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي جاء من خلفية تجارية بحتة، فإن المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي قضى سنوات طويلة في عالم الأعمال وشغل مناصب قيادية بارزة منها رئاسة مجلس الإشراف لعملاق التمويل الأمريكي بلاك روك، حوّل أنظار المستشارية الألمانية نحو الاقتصاد بشكل واضح. إلا أن الوضع الاقتصادي في ألمانيا لا يزال يعاني من الركود، حيث تواجه البلاد عامها الثالث على التوالي دون نمو ملموس. وفي ظل التحديات الجيوسياسية المتصاعدة وموجة التعريفات الجمركية العالمية، تبدو التوقعات الاقتصادية غير مبشرة على الإطلاق.
يمثل إحياء الاقتصاد أولوية قصوى للحكومة الألمانية الجديدة، التي تشكلها ائتلاف حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والذي تولى السلطة منذ أوائل مايو الماضي. وقد اتخذت الحكومة خطواتها الأولى بإقرار البوندستاغ والبوندسرات اقتراض 500 مليار يورو لصندوق خاص يستثمر في البنية التحتية وحماية المناخ. ويهدف هذا الصندوق إلى إصلاح شبكة النقل المتعثرة، والاستثمار في شبكات الطاقة والرقمنة والبحث العلمي، وهي مجالات حيوية لتحفيز النمو الاقتصادي.
ستشهد الشركات تخفيفاً ضريبياً كبيراً كجزء من هذه الخطة، حيث سيتم خفض أسعار الطاقة للقطاع الصناعي، كما ستُحتسب الاستثمارات في الإنتاج والآلات والبحث والتطوير ضمن التقييمات الضريبية. بالإضافة إلى ذلك، من المقرر خفض الضرائب على الشركات على المدى المتوسط. وقد أعرب قادة الشركات عن تفاؤلهم بالتعاون الجديد بين الحكومة وقطاع الأعمال، حيث صرح رئيس شركة سيمنز أن الحوار بين الطرفين أظهر أنهما على نفس الصفحة، بينما أشاد الرئيس التنفيذي لبنك دويتشه بنك بسرعة تحرك الحكومة في معالجة قضايا النمو والتنافسية.
لكن رغم هذه الخطوات الإيجابية، تطالب الشركات بمزيد من الإصلاحات، خاصة في مجال تخفيف اللوائح التنظيمية وتقليل الأعباء البيروقراطية واشتراكات التأمينات الاجتماعية، التي ترفع تكلفة العمالة بشكل كبير. في ألمانيا، يتحمل أصحاب العمل والموظفون معاً أعباء اشتراكات التأمين الصحي والبطالة والمعاشات، والتي شهدت زيادات كبيرة مؤخراً بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، مع توقعات بمزيد من الزيادات في اشتراكات التأمين ضد العجز بحلول عام 2026.
تواجه ألمانيا تحديات جسيمة في نظامها الاجتماعي، حيث يُوجه نحو 42% من الناتج القومي الإجمالي للخدمات الاجتماعية، مع تزايد الضغط على صناديق المعاشات بسبب شيخوخة المجتمع وارتفاع متوسط العمر المتوقع. وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يُعد إصلاح التأمينات الاجتماعية التحدي الأكبر لألمانيا، وإذا لم تُتخذ إجراءات جذرية، فستضطر الحكومة إلى زيادة الديون بشكل مستمر للحفاظ على استمرارية الأنظمة الاجتماعية.
في هذا السياق، ومن منطلق إدراك الدور المحوري للقطاع الخاص، أطلقت 61 شركة ومستثمراً رائداً مبادرة “صُنع لأجل ألمانيا” لتعزيز الاقتصاد ومواجهة التحديات المستقبلية. تهدف المبادرة إلى تعزيز الحوار بين القطاعين العام والخاص ووضع إصلاحات مستهدفة في مجالات الرقمنة والابتكار والبنية التحتية. وقد تعهد المشاركون في المبادرة باستثمار 631 مليار يورو في الاقتصاد الألماني بحلول عام 2028، بما يشمل استثمارات رأسمالية وإنفاقاً على البحث والتطوير. ويأتي هذا التعهد في وقت تشهد فيه ألمانيا تدفقات استثمارية خارجة كبيرة، مما يعكس ثقة المستثمرين في إمكانات البلاد على المدى الطويل. تستند المبادرة إلى مشاريع رائدة لتحفيز الابتكار وخلق فرص العمل، مع التركيز على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة في الوصول إلى رأس المال. وقد عُقد اجتماع إطلاق المبادرة في المستشارية الاتحادية بحضور المستشار ميرتس وعدد من الوزراء وكبار التنفيذيين، الذين أكدوا على أهمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتعزيز النمو والتنافسية. وأعرب قادة الشركات عن تفاؤلهم بقدرة ألمانيا على استعادة دورها الاقتصادي الرائد، خاصة في مجالات التكنولوجيا والرقمنة، مشددين على ضرورة تقليل البيروقراطية وزيادة الابتكار. كما دعوا شركات ومستثمرين آخرين للانضمام إلى المبادرة للمساهمة في تعزيز الاقتصاد الألماني.
ليس هذا أول مرة تلجأ فيها ألمانيا إلى مبادرات مماثلة لتحفيز الاقتصاد. فخلال أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، تبنت الحكومة الألمانية سياسات تدخلية مشابهة، وإن كانت في سياق مختلف. كما أن خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، التي مولتها الولايات المتحدة، ساعدت ألمانيا الغربية على إعادة بناء اقتصادها من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية والصناعة. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أطلقت الحكومة الألمانية حزمة تحفيزية بقيمة 50 مليار يورو لمواجهة تبعات الأزمة المالية العالمية، مما ساهم في تعافي الاقتصاد بسرعة نسبية.
أما على الصعيد الدولي، فإن تجارب مثل “الصفقة الجديدة” في الولايات المتحدة خلال الثلاثينيات، التي تبنت أفكار الاقتصادي جون مينارد كينز حول تدخل الدولة لتحفيز الطلب الكلي، تُعد مثالاً بارزاً على نجاح السياسات التدخلية في أوقات الأزمات. كما أن الصين استخدمت سياسات مماثلة خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث ضخت الحكومة نحو 586 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية، مما ساعد الاقتصاد الصيني على النمو بمعدلات مرتفعة رغم الركود العالمي.
تعود جذور هذه السياسات إلى نظرية الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، الذي دعا في كتابه “النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود” (1936) إلى تدخل الدولة لتحفيز الاقتصاد خلال فترات الركود. يرى كينز أن الحكومات يجب أن تزيد الإنفاق العام وتخفض الضرائب لتعزيز الطلب الكلي عندما يعجز القطاع الخاص عن القيام بذلك. وتُعد المبادرة الألمانية الحالية تطبيقاً عملياً لهذه النظرية، حيث تسعى الحكومة إلى تحفيز الاستثمارات الخاصة من خلال سياسات مالية توسعية. غير أن نجاح هذه السياسات يعتمد على عدة عوامل، منها قدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين التحفيز الاقتصادي والاستدامة المالية. ففي حين أن زيادة الإنفاق الحكومي يمكن أن تعزز النمو على المدى القصير، فإنها قد تؤدي إلى ارتفاع الديون العامة إذا لم تُدار بحكمة. كما أن التحديات الهيكلية، مثل شيخوخة السكان في ألمانيا، تتطلب إصلاحات أعمق تتجاوز السياسات المالية التقليدية.
ختاماً، فإن مبادرة “صُنع لأجل ألمانيا” تمثل خطوة مهمة نحو إحياء الاقتصاد الألماني، لكنها تحتاج إلى أن تكون جزءاً من استراتيجية شاملة تشمل إصلاح النظام الضريبي وتخفيف الأعباء البيروقراطية ومواجهة التحديات الديموغرافية. وفي الوقت نفسه، تقدم التجارب التاريخية، سواء في ألمانيا أو دول أخرى، دروساً قيمة حول كيفية تحقيق التوازن بين تدخل الدولة وحرية السوق لضمان نمو مستدام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال