الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل تسارع إيقاع التعاملات التجارية، واتساع رقعة التبادلات بين روّاد الأعمال، بات من الطبيعي أن تنشأ نزاعات متكررة بين الأطراف التعاقدية، ما أدّى إلى تضخّم حجم المنازعات المعروضة أمام المحاكم. ومع تراكم هذا العبء على النظام القضائي، برزت الحاجة الماسّة إلى توفير وسائل بديلة لتسوية المنازعات تتسم بالمرونة والكفاءة، وتواكب خصوصية التعاملات التجارية، مع الحفاظ على العلاقات التعاقدية.
تستمد الوسائل البديلة لتسوية المنازعات أهميتها من عدّة سمات تجعلها مفضّلة لدى بيئة الأعمال، وفي طليعتها البساطة والمرونة؛ فهي لا تخضع لإجراءات شكلية صارمة، بل تمنح الأطراف حرية واسعة في اختيار القواعد المنظمة لتسوية النزاع، وانتقاء الجهة أو الشخص المكلّف بهذه المهمة. كما أن سرعة الإجراءات تمثّل عنصراً حيوياً؛ إذ تُحلّ من خلاله النزاعات غالباً خلال مدة قصيرة، مقارنة بالمدة الطويلة التي قد تستغرقها الدعاوى القضائية، الأمر الذي يتماشى مع ديناميكية البيئة التجارية. ويُضاف إلى ذلك انخفاض التكاليف نسبياً؛ إذ تُجنّب هذه الوسائل المتنازعين أعباء الرسوم القضائية، وأتعاب الترافع، فضلاً عن النفقات المرتبطة بالإجراءات الإدارية.
وتُعد الوساطة أبرز صور التسوية الودية للمنازعات التجارية، وتمتاز بمرونتها وكفاءتها في معالجة النزاعات دون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء. وتقوم الوساطة على تدخل طرف ثالث محايد –الوسيط– يتولّى تسهيل التواصل بين الأطراف المتنازعة، ويسهم في اقتراح حلول واقعية تتلاءم مع طبيعة النزاع واحتياجات الأطراف. وتتميّز الوساطة بأنها لا تفرض حلاًّ إلزامياً، بل تعتمد على اتفاق الأطراف، ما يعزّز من فرص الوصول إلى تسوية مرضية تُحافظ على العلاقة التعاقدية وتجنّب التصعيد.
وبخلاف وسائل ودّية أخرى، كالتوفيق الذي يقتصر غالباً على تقريب وجهات النظر دون طرح حلول إبداعية، فإن الوساطة تتّسم بدور أكثر فاعلية، حيث يستند الوسيط غالباً إلى خبرات فنية وقانونية متخصصة تُضفي على العملية طابعاً احترافياً وفعّالًا. كما أن السرّية تُشكّل إحدى ركائز الوساطة، إذ تُجرى المداولات في أجواء محمية بما يضمن عدم الإضرار بأي من الأطراف في حال عدم التوصّل إلى اتفاق للتسوية.
كما تزداد أهمية الوساطة في العلاقات التعاقدية التي تتطلب استمرارية زمنية في تنفيذ الالتزامات؛ إذ تتيح تسوية النزاعات دون الإضرار بالروابط التعاقدية القائمة، كالحال عند نشوء خلاف بين “مانح” امتياز تجاري و”صاحب” امتياز حول تفسير شروط الاتفاقية دون نية لإنهائها. فبدلاً من تصعيد النزاع إلى المحكمة، يمكن للطرفين اللجوء إلى الوساطة التجارية كخيار استراتيجي مما يتيح لهما مناقشة التفاصيل الفنية والتجارية بسرّية عبر وسيط متخصص في الامتياز التجاري، ما يعزّز من فرص الوصول إلى حلّ توافقي يُرضي الأطراف ويحافظ على العلاقة التعاقدية بينهما.
ومع ذلك، تظل فاعلية الوساطة رهينة بترسيخ ثقافة تعي أهمية التسوية الودية للنزاعات في بيئة الأعمال، إلى جانب الحاجة الملحّة إلى دعم تشريعي متكامل يُرسّخ مكانتها ضمن منظومة العدالة التجارية. ويتطلّب ذلك سنّ إطار تنظيمي يُحدّد الأحكام الإجرائية والموضوعية لممارسة الوساطة في المملكة، على نحو يوازي ما تم تحقيقه في نظام التحكيم، وبما يضمن توافق البيئة القانونية المحلية مع المعايير الدولية في هذا المجال.
في هذا السياق، يُشكّل “مشروع نظام الوساطة” خطوة تشريعية واعدة نحو تقنين هذا الخيار البديل، وتعزيز موثوقيته، وتفعيل دوره كأداة فعّالة لحلّ المنازعات المدنية والتجارية. فقد حرص المشرع على ضمان توفير إطار تنظيمي متكامل يدعم الوساطة في التعاملات التجارية، من خلال تنظيم إجراءاتها، وضمان تنفيذ وحجية اتفاقات التسوية المحلية والدولية، وتيسير استخدام الوسائل الإلكترونية، إلى جانب رفع كفاءة الوسطاء، وتعزيز الثقة في حيادهم واستقلالهم.
من هنا، يُتوقّع أن يُحدث مشروع النظام نقلة نوعية في تعزيز الوساطة كأداة فعّالة لتسوية المنازعات التجارية، بما يُسهم في تحسين بيئة الأعمال، وترسيخ مكانة المملكة كمركز قانوني وتجاري رائد، في انسجام مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 نحو بناء منظومة عدلية متقدمة واقتصاد تنافسي جاذب للاستثمار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال