الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مكاتب كثيرة حول العالم، هناك جملة لم تعد تُقال همسًا: إذا لم تتقن أدوات الذكاء الاصطناعي، فمكانك على الهامش. ليس ذلك من قبيل التحفيز على التعلّم، بل من باب التصفية المؤسسية الباردة.
شخصيًا، بحكم عملي في قطاع صناعي وتقني سريع التغير، بدأت ألاحظ مبكرًا كيف تتحول لغة الاجتماعات من “مخرجات الأداء” إلى “مستوى التبني التقني للفرد”. السؤال لم يعد: كيف أنجز المهمة؟ بل: هل أستطيع تسليمها للأداة الذكية لتنجزها أفضل وأسرع؟ وهذا التغير السريع لم يعد نظريًا، بل واقعًا يُعيد ترتيب الأولويات الوظيفية من جذورها.
بعض كبار التنفيذيين لم يعودوا يخجلون من الاعتراف بأن الذكاء الاصطناعي أصبح معيارًا حاسمًا للجدارة، وأن من لا يواكب، فعليه أن يُفسح الطريق. ما قاله الرئيس التنفيذي لأمازون مؤخرًا كان واضحًا: نريد موظفين يستخدمون الذكاء الاصطناعي لرفع الكفاءة، لا من ينتظرون أن يُنقَذوا به. وفي Salesforce، أعلن مارك بينيوف أن الموظفين غير القادرين على الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي قد لا يكون لهم مستقبل طويل في الشركة.
التحول الذي يحدث لا يشبه أي شيء واجهته بيئة العمل سابقًا. لقد اعتدنا في الماضي أن تأتي التهديدات المهنية من الخارج: شركات منافسة، تحولات اقتصادية، سياسات حكومية. اليوم، الخطر في الداخل: خوارزمية تُدرَّب، أو نموذج لغوي يُحدَّث، أو منصة جديدة تُطلق، فيتغير معها توصيف الوظائف، ومعايير التقييم، وحتى الجدوى من وجود بعض الإدارات.
في المقابل، الشركات لا تملك رفاهية التردد. الضغط لتقليص التكاليف، وزيادة السرعة، ومنافسة الأسواق الناشئة، أجبرها على إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون موظفًا ذا “قيمة مضافة”. لم يعد الأمر يقتصر على المهارة التقنية أو الخبرة الطويلة، بل على “قدرتك على التكيّف السريع مع أدوات تتغير كل أسبوع”. وهذا لا ينطبق فقط على الموظفين الجدد أو صغار السن، بل حتى على القيادات العليا، التي أصبحت مطالبة اليوم بتبنّي أدوات ذكاء اصطناعي لفهم سلوك السوق، وتحليل البيانات، واتخاذ قرارات استراتيجية أسرع.
هكذا تحوّل قسم الموارد البشرية إلى مسرّع أو مُصفٍّ، لا فرق. الموظف الذي لا يُظهر قدرة على استخدام الذكاء الاصطناعي أصبح فجأة عبئًا محتملاً، لا استثمارًا طويل المدى. في بعض الشركات، يُطلَب من الموظف تقديم “خطة تطوير ذاتي” تبين كيف سيتعلّم تطبيقات الذكاء الاصطناعي خلال ثلاثة أشهر، وكأن مهاراته السابقة لا تساوي شيئًا إن لم تندمج مع ما يقدمه OpenAI أو Anthropic أو Google DeepMind.
حتى ثقافة الأداء نفسها تغيّرت. لم تعد الاجتماعات تتحدث عن “أفضل الطرق لإنجاز المهمة”، بل عن “أسرع طريقة باستخدام نموذج GPT”. الموظف الذي يُتقن اختصار العمليات عبر أدوات الذكاء الاصطناعي يُكافأ، والذي لا يفعل يُنظر له وكأنه لا يفهم لغتنا الجديدة.
كل هذا يحدث بسرعة تسبق قدرة كثير من الأفراد على الاستيعاب. بعضهم لا زال في طور اكتشاف معنى “النموذج التوليدي”، بينما الشركات تسابق الزمن لدمج هذه النماذج في عمليات اتخاذ القرار، وتحليل البيانات، وحتى صياغة العقود القانونية. ومن يكتفي بفهم السطح، يجد نفسه فجأة في بيئة تُكافئ من يُفكّر بمستوى أعلى من الأتمتة، لا من ينجز المهمة فقط.
قبل أيام، دار بيني وبين أحد الزملاء في قطاع الخدمات اللوجستية حديث عفوي، قال فيه عبارة ظلّت ترنّ في ذهني: “أشعر وكأنني أصبحت فجأة أؤدي عملي بطريقة خاطئة، ليس لأن مهامي تغيرت، بل لأن العالم من حولي تغيّر، ولم أواكب هذا التغير بالسرعة المطلوبة”. لم يكن يتحدث من باب التذمر، بل من موقع حقيقي للقلق. لقد أدرك أن الذكاء الاصطناعي لا يمنحه رفاهية التأقلم التدريجي، بل يطالبه بتكيّف فوري، وإلا فإن المنظومة ستمضي بدونه.
اللافت في هذه التحولات ليس فقط سرعتها، بل حدّتها. نحن لا نشهد عملية “إعادة تدريب” طبيعية كما حدث مع الحواسيب أو البريد الإلكتروني في التسعينات، بل إعادة هيكلة جذرية لجوهر العمل نفسه. الوظائف لم تعد تُلغى من أعلى إلى أسفل، بل من الداخل، حيث يتلاشى دور الموظف بالتدريج مع كل مهمة يُسلَّمها إلى نموذج آلي يعمل بدقة وبلا كلل.
الموظف اليوم يشعر وكأنه تحت اختبار يومي: هل يعرف كيف يستخرج قيمة من هذه الأداة الجديدة؟ هل يستطيع كتابة مطالبة تأمين بلغة صافية بمساعدة AI؟ هل يمكنه تحليل جدول بيانات معقد عبر Copilot دون سؤال أحد؟ إن لم يفعل، فالمنصب ليس مضمونًا.
أنا لا أطرح هذه الأسئلة من باب التنظير، بل من قلب التحدي. أتعامل يوميًا مع فرق تقنية، وسلاسل إمداد، وخطط إنتاج، حيث بدأنا نرى كيف يُعاد توزيع الأدوار والتقييمات المهنية استنادًا إلى سرعة التبني التقني. الحياد لم يعد خيارًا. وحتى من لا يعارض الذكاء الاصطناعي، قد يجد نفسه فجأة خارجًا عن السياق فقط لأنه لم “يُجيد استخدامه”.
ربما السؤال الحقيقي ليس “هل الذكاء الاصطناعي سيأخذ وظيفتي؟”، بل “من سيقرر أنني لم أعد مناسبًا لوظيفتي لأنني لم أستخدمه؟”. الفرق ليس في التقنية، بل في من يملك الحق في تعريف الكفاءة، ومن يملك أن يفرضه على الآخرين.
نحن لا نعيش فقط ثورة تكنولوجية، بل إعادة صياغة لسلطة القرار داخل كل منظمة. لم يعد المدير من يقيّم الأداء، بل الأداء ذاته يقيّم نفسه عبر الأتمتة. والنتيجة؟ نظام جديد لا يخبرك أنك فشلت، بل يُشعرك أن وجودك لم يعد ضروريًا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال