انخفاض البطالة في السعودية .. أرقام تاريخية تعيد صياغة الحاضر وتبني اقتصادًا مختلفًا

لا تُقاس مكانة الدول بما تُشيّده من مبانٍ أو بنى تحتية فقط، بل بما تتيحه من فرص أمام أبنائها ليكونوا جزءًا من حركة الاقتصاد والإنتاج. فالعمل ليس مجرد وسيلة للكسب، بل هو مساحة لتحقيق الذات، ووسيلة للاندماج في المشروع الوطني الكبير. وكلما اتسعت دائرة التوظيف، ازدادت مرونة المجتمع، وارتفعت قدرته على التماسك والنمو.

هذا ما بدأت المملكة تحقيقه على أرض الواقع، مع تراجع البطالة إلى أدنى مستوياتها، واتساع نطاق التمكين في مختلف القطاعات.

خلال الربع الأول من عام 2025، انخفض معدل البطالة الإجمالي لسكان المملكة إلى 2.8%، وهو أدنى مستوى تاريخي. أما بين السعوديين، فانخفضت النسبة إلى 6.3% مقارنة بـ7.6% في الربع الأول من عام 2024، ما يمثل تحسنًا سنويًا بمقدار 1.3 نقطة مئوية. ويعكس هذا الانخفاض الأثر الفعلي للبرامج الحكومية التي عملت على تحفيز القطاع الخاص، وتوسيع التدريب، وتعزيز جاهزية الكفاءات الوطنية لسوق العمل.

وضمن أبرز ملامح التحول في سوق العمل، واصلت مشاركة المرأة السعودية صعودها، لتبلغ 36% من القوى العاملة، فيما انخفضت بطالة السعوديات إلى 10.5%، وهو أدنى مستوى يُسجل في تاريخ المملكة. هذه المؤشرات ليست منفصلة عن مسار التمكين الذي تقوده الدولة، والذي بدأ يثمر ببيئة عمل جاذبة تدعم استمرارية المرأة واستقرارها الوظيفي.

في المقابل، شهد الربع الأول من العام نفسه تدفقات استثمار أجنبي مباشر بلغت 22.2 مليار ريال، ما يشير إلى تزايد ثقة المستثمرين بالسوق السعودية، ويؤكد أن تنمية الوظائف ليست معزولة عن ديناميكية الاستثمار. فعبر المشاريع الجديدة، يتم خلق فرص عمل نوعية تسهم في تنشيط الاقتصاد، وفتح آفاق مهنية متجددة للمواطنين والمواطنات.

ويأتي هذا التحسّن في سياق تحوّل اقتصادي أوسع يُعيد تشكيل القطاعات ويعزّز تنافسية المملكة على المدى الطويل.

أما القطاعات التي استوعبت العدد الأكبر من الوظائف الجديدة، فتقدمتها الصناعات التحويلية التي أضافت 49.5 ألف وظيفة، تلتها أنشطة التشييد بـ36.8 ألف وظيفة، ثم أنشطة إمدادات المياه والمجاري وإدارة الفضلات، التي زادت وظائفها بنحو 14 ألف وظيفة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. هذا النمو جاء مدفوعًا بزيادة الطلب المحلي وتسارع مشاريع البنية التحتية ضمن مستهدفات رؤية 2030.

وعلى المستوى المناطقي، تتفاوت معدلات البطالة بين السعوديين. فقد سجلت الرياض أدنى معدل بنسبة 3.4%، تلتها نجران بـ4.2%، ثم الشرقية بـ5%. بينما ارتفعت المعدلات في عسير إلى 10.7%، والحدود الشمالية إلى 10.3%، تليها تبوك بـ9.8%، ثم الباحة بـ9.5%. أما المدينة المنورة فسجلت 8.3%، ومكة المكرمة 7.9%، وحائل 7.8%، وجازان 7.6%، ثم القصيم بـ6.5%، والجوف بـ6.4%. هذا التفاوت يشير إلى ضرورة رسم سياسات توظيف مخصصة لكل منطقة، تراعي احتياجاتها وتستثمر في قدراتها المحلية.

وتُعد هذه المؤشرات محفزًا مهمًا أمام الشباب السعودي، لإعادة بناء تطلعاتهم المهنية داخل وطن يتسع لطموحاتهم.

ومع استمرار تنفيذ المشاريع الكبرى وتوسيع نطاق التحفيز الاقتصادي، يُتوقع أن تشهد السنوات القادمة مزيدًا من التراجع في معدلات البطالة، خصوصًا في المناطق الأعلى حاليًا، ضمن جهود الدولة لتحقيق تنمية أكثر شمولًا واستقرارًا.

ختام القول.. هذه النتائج ليست مجرد أرقام تُدرج في تقارير رسمية، بل شواهد حقيقية على أن المملكة العربية السعودية تمضي بثقة في مسار اقتصادي متماسك، يُعيد هيكلة السوق ويمنح أبناء الوطن فرصًا متجددة لصناعة مستقبلهم داخل وطنهم.

ومع كل انخفاض في البطالة، تزداد الثقة بأن ما يتحقق اليوم ليس طارئًا ولا عابرًا، بل هو تتويج لرؤية واضحة تبني اقتصادًا سعوديًا أكثر تنوعًا ومرونة واستدامة.

فمن خفض البطالة تُولد الثقة، ومن الثقة تُبنى مجتمعات أقوى، واقتصادات أرسخ، وأوطانٌ تصنع الفارق وتفرض حضورها بثقة في مشهد العالم