الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في زمنٍ تتسارع فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتتنافس فيه الدول على تصدير التقنية، قد يبدو الحديث عن الشعر وكأنه استحضار لزمن عتيق لا يتوافق مع معطيات السوق الحديثة. غير أن الواقع يبرهن على أن الشعر، وإن تبدّلت وسائله، ما زال أحد أكثر أدوات التأثير حيوية، ليس في المشهد الثقافي فحسب، بل في تشكيل السلوك الجمعي، وصناعة الانطباع، بل وحتى في تحريك السوق.
فالشعر في بعض الأمم يُقرأ للترف أو التجميل، لكنه في أمة العرب بوجه خاص، وُلد بوظيفة اجتماعية، واستُخدم كأداة سياسية، واستمرّ حتى اليوم كقوة ناعمة قادرة على أن تُهذّب، وتُثير، وتُقنع، وتُحرك. لم يكن الشاعر مجرد أديب، بل ناقد سلوك، ومُهندس إدراك، وموجه ذوق جمعي.
وقد يكون الشعر هو الوسيلة الأقدم في التاريخ التي تم بها تقويم السلوك البشري. فالبيت الواحد قد يعادل خطابًا توعويًا، وقد يحل محل صفحات من التعليم والإرشاد، ويغرس قيمةً في النفس من دون أن يشعر المتلقي بثقل الوعظ أو رسم السلطة. وهذا ما يجعله من حيث الوظيفة، أقرب إلى آليات الاقتصاد السلوكي المعاصر، الذي يدرس كيف تتشكل القرارات الفردية تحت تأثير العاطفة، والبيئة، والرموز الاجتماعية.
وفي هذا السياق، يظهر دور النقد الشعري لا كمجرد ممارسة ثقافية، بل كأداة لتمحيص الرسائل الضمنية التي ينقلها الشعر، وتقويم محتواه الأخلاقي والسلوكي، وكبح تأثيرات سلبية قد تروج لها بعض النصوص بدافع الانفعال أو المبالغة. فالنقد هو الحاجز الأخلاقي والوعي المتقدم الذي يجعل من الساحة الشعرية منصة بناء لا ساحة انفعال فقط.
إذ لا يمكن الاكتفاء بالنظر إلى الشعر بوصفه محتوى ترفيهيًا أو منتجًا إعلاميًا، دون فحص الأثر السلوكي الذي يُحدثه، خاصة في المجتمعات التي يتلقف فيها الناس الشعر بجدية تفوق المقالات والخطب الرسمية. والنقد، حين يُمارس بحرفية ووعي، يتحول إلى ضمير حي يحرس السلوك الجمعي من الانزلاق خلف الانفعالات غير المنضبطة، ويعيد توجيه الذائقة نحو الرصانة والمعنى.
لكن هذا البعد التربوي للساحة الشعرية، لم يمنعها من أن تتحول في العقود الأخيرة إلى ساحة اقتصادية نشطة. فقد دخل الشعر ضمن ما يُعرف اليوم بـ”الصناعات الثقافية والإبداعية”، وهي قطاعات اقتصادية قائمة على تحويل الإبداع إلى منتج وخدمة وفرصة عمل. فالمهرجانات الشعرية الكبرى مثل “شاعر المليون” و”أمير الشعراء”، أصبحت علامات تجارية، تُباع فيها الحقوق، وتُستثمر فيها الإعلانات، وتُخلق حولها وظائف.
كما أن المحتوى الشعري تحول إلى منتج رقمي يُستهلك عبر منصات التواصل، وتتولد منه عوائد مباشرة من المشاهدات، وطلبات القصائد، وتحويل النصوص إلى أغانٍ أو شيلات تباع وتُتداول، بل وتُستثمر حتى في الحملات الإعلانية.
بل إن بعض الشعراء أصبحوا مؤثرين اقتصاديين دون أن يُسمّوا بذلك. فالشاعر الذي يُتابعه الملايين، ويُلقي قصيدته في محفل عام أو عبر برنامج إعلامي، يُحدث انطباعًا عامًا قد ينعكس على السلوك الشرائي أو التوجّه الجماهيري أو تعزيز قيمة معينة تُفيد القطاع العام أو الخاص.
وليس من المبالغة القول إن الشعر حاضر في تفاصيل يوم الناس العادية: في سفرهم، يُرافقهم صوتٌ شجيّ يحمل قصيدةً تُلامس وجداناتهم. وفي جلساتهم، تُفتتح المجالس ببيت مؤثر وتُختم بكلمة شعرية. وفي الهدايا، تُهدى المجموعات الشعرية، وتُرسل المقاطع الصوتية. بل إن الشعر بات أداةً نفسيةً يستخدمها البعض للتنفيس أو الاستجمام أو التعبير عن الذات.
وهذا كله يعكس حجم السوق الذي يتحرك خلف الشعر، من الإنتاج إلى التوزيع إلى الاستهلاك، ما يجعله جزءًا من المنظومة الاقتصادية الشاملة، وإن ظل في صورته الظاهرة محتوى وجدانيًا.
خلاصة القول: الشعر ليس رفاهية فكرية كما يتصور البعض، بل هو مزيج من الوعي والسلوك والاقتصاد. تأثيره لا يقف عند حدود القصيدة، بل يتجاوزها إلى تشكيل الذوق الجمعي، وتحريك الانفعالات، وصناعة الانطباعات، وبناء القيم، وتحقيق العوائد. وبين هذا وذاك، يبقى النقد مسؤولية فكرية لا تقل أهمية عن القصيدة نفسها، لأنه الخط الدفاعي الأول الذي يضبط الاتجاه السلوكي للرسالة الشعرية قبل أن تتحول إلى موجة تنتشر في الأذهان والأسواق.
وفي أمة العرب، يبقى الشعر شاهدًا على الوجدان، وموجهًا للسلوك، ومصدرًا للقيمة… الأدبية والاقتصادية على حد سواء.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال