الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تسعى الحوكمة إلى تحقيق مجموعة من المعايير والقواعد تحقق من خلالها الشفافية في كافة معاملاتها وعملياتها، وإجراءات المراجعة المالية والإدارية على نحو يُمكنها من ضبط عمليتها، كما تحقق الحماية المطلوبة للمساهمين من تعسّف مجلس الإدارة، وتحسين العمليات الإدارية، ومساعدة المديرين ومجلس الإدارة على بناء استراتيجية سليمة، وتجنب حدوث الأزمات المالية للشركات لما لدورها الرقابي الذي يجعلها تتنبأ بذلك بوجود اللجان المتخصصة والتي تقدم المشورة المظبوطة، ويجب ألا نغفل عن دورها في تحقيق العدالة والمساواة بالمعاملة المتكافئة بين جميع المساهمين.
إضافةً إلى ما سبق تهدف إلى تحقيق الشفافية وإعطاء المساهمين حق مساءلة الشركة، والتي بدورها تحقق الحماية للمساهمين وأصحاب المصالح على حد سواء والتقليل من تكلفة الوكالة، والحدّ من استغلال السلطة في صورة انتقائية ولتحقيق منفعة خاصة تطبيق لمبدأ حسن النية، والحرص على تنمية استثمارات الشركة وتشجيع المستثمرين المستهدفين مستقبلاً للتوسع ومراعاة العاملين، وتحقيقها للامتثال لأحكام النظام والذي بدوره يُعدّ ضابطاً مهماً لأنه وُضع بعناية فائقة لحماية الجميع، وكل ذلك لتقليص الفجوة بين المُلاك ومن يديرون الشركة وضمانة للمُلاك من سلبية-الفصل بين الإدارة والملكية- الملاصقة لتسير شركات المساهمة .
كما يشكّل تعارض المصالح أحد أبرز التحديات التي تواجه شركات المساهمة، خصوصاً في ظل التداخل بين الإدارة والملكية من كبار المساهمين، وغياب الحواجز الفاصلة بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وقد أظهرت بعض الحالات في السوق المالية السعودية كيف يمكن أن تثير بعض ممارسات التعاقد مع أطراف ذوي علاقة شكوكاً حول جدّية تطبيق قواعد الحوكمة وفاعلية آليات الرقابة، خاصة عندما تُعرض تلك التعاقدات على الجمعيات العمومية للتصويت دون وجود ما يكفي من الشفافية أو المنافسة العادلة وسلبية صغار المساهمين -الاقلية- في الحضور وتسجيل رأي واضح حول تلك المواضيع المدرجة للتصويت.
يفترض أن تعزز الحوكمة في شركات المساهمة مبدأ-الوكالة- وأن مجلس الإدارة يمثل المساهمين ويعمل لصالحهم بصفته وكيلاً عنهم، غير أن التعاقد المتكرر مع أطراف ذوي علاقة، دون إجراء منافسات شفافة، يمثل انحرافاً عن هذا المفهوم. فالمساهم لا يمكنه إدارة الشركة بنفسه، لكنه يأتمن المجلس على إدارة مصالحه؛ وإذا أُخل بهذه الأمانة اختل أساس العلاقة التعاقدية، وهو ما أكدت عليه المادة 20 من لائحة حوكمة الشركات والتي نصت على أن مجلس الإدارة مسؤول عن تمثيل جميع المساهمين وبذل العناية لصالح الشركة، وحين تستغل الأغلبية في مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية سلطتها لتمرير عقود قد لا تحقق مصلحة الشركة بصورة متوازنة، يُعد ذلك نوعاً من التعسف، ولو لم تكن هناك نية مباشرة للإضرار بالأقلية، فالمعيار هنا ليس النية بل النتيجة والمآل، وهل تم تحقيق العدالة في المعاملة أم تم تفضيل جهة بعينة تفضيلاً وتقديماً للمصالح الخاصة.
وبما أن التعسف في استعمال الحق يُعد قائماً عندما تُوظف الصلاحيات الممنوحة لمجلس الإدارة لتحقيق منافع شخصية أو فئوية، ولو بدا ذلك في الظاهر ضمن الإطار النظامي، متى ترتب على ذلك إضرار بمصلحة الشركة أو المساهمين الآخرين، أو اختلال لمبدأ العدالة والمساواة بينهم، فالمعيار ليس فقط النتيجة بل أيضاً غياب المبررات التجارية أو الموضوعية التي تبرر القرار، لأن الافتراض في إدارة المجلس أنها يعمل بحسن نية لمصلحة الشركة لا لمصالحها الشخصية، غير أن حسن النية يشكك به عند غياب الإفصاح، وخصوصاً عندما لا تُعرض دراسات جدوى أو لا تُقارن البدائل، أو تتكرر التعاملات مع نفس الأطراف دون مبرر تجاري واضح، أو مع تكرار التعامل مع نفس الأطراف المرتبطة بالإدارة فوفقاً للمادة 12 الفقرة 4 من اللائحة، يجب التأكد من التزام المجلس بالقواعد النظامية والتصرف بما يحقق مصلحة الشركة بحسب اختصاصات الجمعية.
مؤخراً وفي إحدى الشركات العاملة في القطاع الصحي تم طرح عدد من المواضيع التي يُحتمل أن تمثل تعارض مصالح واضح، مما أثار نقاشاً واسعاً في أوساط المهتمين بالسوق المالي، وذلك بعرض عدد من العقود على الجمعية العامة للمساهمين، وهي عقود تتصل بأنشطة خدمية وإنشائية واستشارية، ومعظمها مع أطراف تربطهم علاقة مباشرة بأعضاء في مجلس الإدارة، وتزامن ذلك ايضاَ مع طلب الموافقة على مشاركة بعض الأعضاء في أنشطة منافسة، هذه الحالة نموذج لما قد يجري في شركات مساهمة أخرى، تثير تساؤلات قانونية وأخلاقية حول مدى التزام الشركة بمبدأ “فصل الإدارة عن الملكية”، وإلى أي مدى تدار الشركة فعلياً بمنطق الوكالة لصالح المساهمين أم أن المصالح الخاصة تتصدر المشهد.
ففي ظل القواعد النظامية التي أتاحت لمساهمي الأقلية أدوات رقابية فعّالة، تبقى سلبية هذه الفئة تحدياً حقيقياً أمام فاعلية الحوكمة، والمشكلة لا تكمن في نقص التشريعات بل في ضعف تفعيلها والاكتفاء بالشكل دون الجوهر، ومتى طغت المصالح الخاصة على المصلحة المؤسسية -مصلحة الشركة- المصلحة الجماعية، تزعزعت الثقة وسقط مبدأ -الوكالة- الذي تقوم عليه شركات المساهمة، وتُعد الحالات التي تظهر في السوق مؤشرات لا ينبغي تجاهلها، بل يجب التعامل معها كفرص لتعزيز الشفافية واختبار نضج السوق، ومن أبرز الضمانات النظامية هو حق المساهمين ممن يملكون 5% فأكثر من رأس المال في التقدّم بطلب قضائي للتفتيش على الشركة عند توافر قرائن مثيرة للريبة، وللقضاء أن يتخذ إجراءات تحفظية أو يدعو الجمعية العمومية أو يعزل مجلس الإدارة والمراجع ويعيّن مديراً مؤقتاً عند الاقتضاء.
ويُعد هذا الحق من أهم أدوات الرقابة التي مُنحت لفئة الأقلية، ولا سيما في حال تهاون لجنة المراجعة في أداء دوره أو تستّره على انحرافات مجلس الإدارة، سواء أكان ذلك بقصد أم نتيجةً لضعف أدوات الرقابة، كما أن اقتصار هذا الحق على شريحة تُمثل فقط 5% من رأس المال يُعد إشارة واضحة إلى رغبة المنظم في تمكين الأقلية الواعية من كشف المخالفات الجسيمة، وتعزيز الشفافية والعدالة داخل الشركة، وهو ما يُحسب للمنظم السعودي ضمن مساعيه لتطوير الإطار الرقابي.
وانطلاقاً من هذه الحاجة إلى تعزيز الرقابة، يبدو لي أن من المقترحات الجديرة بالنظر وهو تعيين مراقب قانوني أو محاسب قانوني مستقل يتولى حضور اجتماعات الجمعيات العامة بصفة دائمة، بهدف التحقق من مدى امتثال الشركة للضوابط النظامية ولائحة حوكمة شركات المساهمة، ويُقترح أن يُدرج هؤلاء المراقبون ضمن قوائم مهنية معتمدة تُعدها وزارة التجارة أو هيئة السوق المالية، يُقيَّد فيها المؤهلون وفق معايير دقيقة تضمن الكفاءة والاستقلال، ويُمنح المراقب مكافأة رمزية مقطوعة عن كل حضور، دون أن يكون له ارتباط تعاقدي دائم بالشركة.
كما يمكن التفكير في مسار موازٍ لتعزيز الشفافية، يتمثل في قَصْر إبرام العقود والمشتريات على منصات إلكترونية معتمدة – على غرار المنصة الحكومية للمنافسات – تُمكِّن الشركات من طرح احتياجاتها للعموم، وتتيح التنافس بين المؤهلين على أساس الكفاءة والسعر، وبذلك نعزز مستوى الشفافية ونحقق المصلحة الجماعية. وقد تناولتُ بعض هذه الإشكالات بمزيد من التفصيل في كتاب صدر لي بعنوان “الفصل بين الإدارة والملكية”، حيث ناقشتُ فيه مظاهر اختلال علاقة الوكالة، وتضارب المصالح، وضعف الرقابة الداخلية، وما يترتب على ذلك من خلل في تطبيق مبادئ الحوكمة.
لذا، فإن فعالية الحوكمة تبقى مرهونة لا بوجود الأنظمة واللوائح فحسب، بل بقدرة المساهمين ومؤسسات السوق على تفعيلها، وتجاوز النمط التقليدي للإدارة إلى ممارسة رقابية واعية، توازن بين السلطة والمسؤولية، فالمساءلة لا تبدأ بحجم الأسهم بل بوعي المساهم بدوره، ومعرفته بحقوقه وواجباته، ومبادرته في تفعيل ما وُضع له من أدوات، بما يسهم في الحد من التجاوزات، وترسيخ مبدأ الشفافية والمحاسبة في بيئة الأعمال، وكلما زاد وعي المساهمين وارتفعت مستويات ثقافتهم، زادت قدرتهم على التصدي للممارسات غير السليمة والضغط في اتجاه إصلاح الخلل، فالحوكمة ليست مسؤولية المشرّع وحده بل هي منظومة تشاركية يُسهم الجميع في بنائها واستدامتها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال