الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في تصور مبسط: إذا وُجدت مائة تفاحة ومائة شخص، سيكون من الطبيعي أن يحصل كل فرد على تفاحة. لا تعقيد، ولا أزمة. لكن إذا احتفظ خمسة بخمسين تفاحة، وتركوا الباقين يتزاحمون على ما تبقى، ستنشأ فجوة لا بفعل قلة الموارد، بل بسوء التوزيع أو تشوه الاستخدام. بهذه الصورة الذهنية، يمكن فهم ما تواجهه بعض المدن السعودية الكبرى — كـالرياض وجدة — من تحديات حادة في الوصول للسكن الملائم، وسط وفرة في المشاريع، وارتفاع غير مبرر في أسعار التملك.
لم تعد الأرض في بعض الأذهان قاعدة لبناء حياة، بل خزينة للثروة. وتحول المسكن من ضرورة اجتماعية إلى فرصة استثمارية. نتيجة لذلك، تُحتجز الأراضي داخل النطاق العمراني دون تطوير لسنوات، فيُجمد العرض، وتُرفع الأسعار، ويُحرَم المواطن من الدخول في سوق العقار بطريقة متوازنة. هذا الخلل لا يرتبط بندرة الموارد، بل بانحراف بعض الأنماط السلوكية في التملك والاحتفاظ والاستخدام.
مع رؤية المملكة 2030، تحوّل السكن من ملف بيروقراطي ثانوي إلى أولوية وطنية تمس جودة الحياة. وقد شهد شهر رمضان الماضي صدور قرارات تاريخية من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تضمنت حلولًا جذرية لإصلاح تشوهات القطاع العقاري، وتحقيق الاتزان السكاني والاقتصادي في المدن.
شملت هذه القرارات:
– استراتيجية وطنية للإسكان ترتكز على تمكين المواطنين لا تحفيز المستثمرين فقط.
– آليات لضبط التملك المفرط داخل المدن الرئيسية بما يحدّ من الاحتكار ويرفع من فعالية العرض الحقيقي.
– أدوات رقابية وتشريعية جديدة تمنع تجميد الأراضي البيضاء، وتعزز الاستخدام السكني الفعلي.
وجاءت التوجيهات العليا بعد شهر رمضان لتؤكد أن أزمة السكن لم تعد شأنًا فنّيًا محدودًا، بل أولوية وطنية تتطلب حلولًا جذرية وسريعة. فقد وجّه سمو ولي العهد باتخاذ سلسلة من الإجراءات، من بينها تخصيص آلاف الأراضي السكنية بأسعار مدروسة، ورفع الإيقاف عن مخططات كبرى في شمال الرياض، إلى جانب إعادة هيكلة رسوم الأراضي البيضاء، وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر ضمن جدول زمني واضح. غير أن النجاح الفعلي لهذه المبادرات مرهونٌ بمدى تسارع تفعيلها على الأرض، وترجمتها إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في واقعه اليومي. فالتحدي لم يعد في ابتكار الحلول، بل في تهيئة البيئة التنفيذية القادرة على إيصالها إلى جميع المدن التي تواجه ضغطًا عقاريًا مرتفعًا، وفي مقدمتها الرياض وجدة ومكة والدمام.
هذه التحركات ليست مجرد تنظير. بل تمثل نقلة منهجية في التعامل مع العقار، باعتباره أحد روافد الاستقرار الاجتماعي، وليس مجرد وعاء مالي.
رغم التحول التشريعي الجاري، لا تزال بعض أنماط التفكير تؤمن أن الأرض لا تُسكن بل تُختزن، وأن العقار أصلٌ للادخار لا للمأوى. ويُكافأ في السوق من يحتفظ، لا من يطوّر. هذا النمط يحتاج إلى تغيير عبر الثقافة والحوافز والنماذج الملهمة، حتى يصبح التملك وسيلة للاستقرار، لا غاية للمضاربة.
كما أن من الضروري في أي خطة إسكانية أن تُوزَّع المشاريع الكبرى ومصادر الجذب السكاني بعدالة على خريطة المدينة، بحيث لا تُحصر التنمية في جهة دون أخرى. فحين تُتركز الخدمات والمجمعات والمشروعات الكبرى في شمال المدينة أو شرقها فقط، يشعر سكان الجهات الأخرى وكأنهم على هامش الحياة الحضرية. وهذا لا يخلق تفاوتًا في البنية التحتية فحسب، بل يولّد شعورًا بالتفاضل المكاني، ويجعل بعض السكان يتعاملون مع جهاتهم وكأنها مؤقتة أو دونية. إن تحقيق التوازن بين الجهات الأربع للمدينة — شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا — لا يمنح كل مواطن فرصة عادلة فحسب، بل يُعزز فخره بمكانه، ويزرع فيه الرغبة بأن يبقى فيه، ويُفضله لا لأنه مجبر، بل لأنه وجد فيه ما يكفيه.
في بكين، على سبيل المثال، لا يُسمح للفرد بامتلاك أكثر من وحدة سكنية داخل المدينة. كما تُفرض ضرائب تصاعدية على من يحاول توسيع التملك بشكل غير سكني. الهدف ليس التضييق على السوق، بل منع تمركز العقار في يد القلة، وضمان توزيع الفرص على الجميع. هذا النهج عزّز التوازن السكني داخل المدينة، وحقق استقرارًا ملحوظًا في أسعار المساكن.
ليس من المستحيل، بل من السهولة بمكان، في ظل التقدم الرقمي وفرز الوحدات العقارية إلكترونيًا، أن تلعب المنظومة العقارية دورًا فعّالًا في تصحيح “لعبة التفاحات”. فبإمكان الجهات المختصة تتبع الملكيات المتكررة، والتمييز بين التملك لأغراض السكن والتملك لأغراض المضاربة، بما يتيح قراءة أدق لواقع السوق. لم تعد المسألة مرتبطة بشح البيانات، بل بكيفية استخدامها لتمكين المواطن لا لتحييده، ولتحقيق التوازن لا لإخفاء الخلل.
لضمان استدامة الأثر، يمكن النظر في مقترحات داعمة منها:
1. فرض مهلة تطوير إلزامية لكل أرض داخل النطاق العمراني، وإلا تُطبّق رسوم تصاعدية.
2. تمكين نماذج التملك التشاركي، لتقليل الكلفة وتعزيز الشراكة المجتمعية.
3. نشر بيانات التملك العقاري لرفع الشفافية وتعزيز الرقابة.
4. ربط تقييم المشروعات العقارية بنسبة إشغال المواطنين لا فقط بمؤشرات البناء.
المدن الكبرى ليست بحاجة إلى المزيد من الأبراج، بل إلى اتزانٍ في الفرص، وتوازنٍ في أنماط التملك، وتشريعات تُعيد توجيه السوق نحو الإنسان لا المضاربة. ما يحتاجه المواطن ليس برجًا جديدًا يُطل على المدينة، بل تفاحةً تعني له السكن والسكينة معًا. فحين تتسع الفرصة للجميع، تصبح المدينة بيتًا لا حلبة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال