الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
من يحاسب شركات التأمين حين تختفي عند أول مطالبة؟ وكيف تتحوّل وثيقة التأمين من وعدٍ بالحماية إلى وثيقة دفاع قانوني ضد العميل؟
وأين تذهب الحوكمة التي تتشدق بها الشركات عندما تتضرر الشحنة، ويبدأ العميل بالمطالبة بحقه؟
ألا يبدو أن الحوكمة تُفعّل فقط لتحصيل الأقساط، وتُعطل عمدًا عند صرف التعويضات؟
هل نحن أمام “صناعة مخاطر مؤسسية”، أم شبكة مصالح محصنة ضد المساءلة؟
هذه ليست مجرد أسئلة نظرية، بل واقع يواجهه بعض الشاحنين والمستوردين يوميًا في العالم ، في ظل غياب حوكمة حقيقية تُنصف الطرف الأضعف في العلاقة: المؤمن له.
ثغرات حقيقية في الحوكمة التأمينية على الشحنات:
عقود التأمين على الشحنات، خصوصًا في النقل الدولي، غالبًا ما تُصاغ بلغة قانونية فضفاضة، تصب في مصلحة شركة التأمين. البنود المتعلقة بـ”الاستثناءات” و”الظروف القاهرة” و”نطاق التغطية” تُمنح فيها الشركة حرية التأويل، مما يجعلها الخصم والحَكم في آنٍ واحد.
هذا الأسلوب في الصياغة يُخالف المبادئ التعاقدية المنصوص عليها في مبادئ UNIDROIT للعقود التجارية الدولية، التي تؤكد في مادتها 4.6 على أنه “يُفسّر أي بند غامض في العقد ضد الطرف الذي صاغه”، وتُعزز في المادة 1.7 مبدأ حسن النية في التفاوض والتنفيذ.
تجاهل هذه المبادئ يُعيدنا إلى معضلة كبرى في الحوكمة التأمينية: الشروط الدقيقة تُستخدم عند التحصيل، لكنها تتحول إلى فخاخ قانونية عند المُطالبة.
أرقام تكشف فسادًا يكلف الاقتصاد العالمي تريليونات الدولارات!
الفساد في سلاسل الإمداد البحرية ليس مجرد كلمة بل خسائر حقيقية هائلة. وفقًا لمجموعة العمل المالي FATF في 2023، يسبب الفساد والرشوة في النقل البحري خسائر تقدر بـ2.6 تريليون دولار سنويًا! تخيل أن شركات التأمين تعوض فقط نصف هذه الخسائر، تاركة العملاء يدفعون الثمن.
بيانات Swiss Re و Munich Re تكشف أن الخسائر التأمينية المرتبطة بالفساد وصلت لـ15 مليار دولار خلال 5 سنوات، مع تأجيل متعمد في صرف التعويضات لأكثر من 40% من المطالبات.
الاتحاد الدولي للنقل البحري IMO يصف الواقع بأنه أزمة شفافية تكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 500 مليار دولار سنويًا، وينادي بحلول تكنولوجية لإنقاذ القطاع، لكن التغيير لا يزال بطيئًا.
هذه الأرقام تضعنا أمام سؤال حاسم: كيف تستمر شركات التأمين في حماية نفسها من العملاء، بينما تترك الملايين يعانوا من تبعات الفساد والخسائر؟
حماية شركات التأمين أم المؤمن لهم؟ دراسة حالة قضية ناقلة Prestige
أثبتت قضية ناقلة النفط Prestige في إسبانيا عام 2002 أن وثائق التأمين تتحوّل إلى درع قانوني يقي شركات التأمين وليس أداة حماية للمؤمن له. فبعد غرق الناقلة وتلويث نحو 2,700 كم من السواحل الأيبيرية، قضت المحكمة العليا الإسبانية بأن شركة التأمين The London P&I Club مسؤولة مباشرة حتى حد بوليصتها، رغم أن الاتفاقية الدولية CLC كانت تسمح عادة بحدود التغطية التقليدية.ومن جهة أخرى، أظهرت محكمة العدل الأوروبية في 2022 أنه لا يمكن لاتفاقية تحكيم موقعة مسبقًا أن تُستخدم لتعطيل الاعتراف بقرار قضائي في دولة عضو، حتى لو كان ذلك عبر التحكيم في لندن .
ولعل الأهم من ذلك أن محكمة Coruña قضت بتعويض مبدئي قدره 1.57 مليار يورو لإسبانيا و61 مليونًا لفرنسا، وهو ما أكّدته المحكمة العليا لاحقًا، بما يرفع إجمالي الأضرار إلى حوالي 1.6 مليار يورو.
عند وقوع خسارة أو تلف، لا توجد جهة مستقلة تحقق في الأسباب. شركة التأمين تستعين بخبرائها، وتصدر تقريرًا داخليًا، يحدد ما إذا كانت ستدفع التعويض أو ترفضه، مما يفتح الباب أمام تضارب المصالح وانعدام الشفافية.
حتى في الحالات التي يبدو فيها التعويض واضحًا، تُواجه المطالبات بسلسلة من المتطلبات المعقدة، والتأجيل، والمراجعات القانونية، وكأن الهدف ليس حماية العميل، بل إنهاكه حتى يتخلى عن حقه أو يقبل بتعويض رمزي.
رغم أن الشحنات قد تُغطي ملايين الدولارات من البضائع، إلا أن الإشراف القانوني على وثائق التأمين المرتبطة بها في كثير من الدول يُدار بنفس الطريقة التي تُدار بها وثائق السيارات أي برؤية بيروقراطية لا تعكس تعقيد سلسلة الإمداد ولا تلاحق الفساد الذي يختبئ خلف التواقيع.
من المستفيد الحقيقي؟
الحوكمة الحالية في قطاع التأمين على الشحنات ليست مُصممة لحماية الحقوق بالتساوي، بل تُمنهج الانحياز المؤسسي لصالح الشركات. الجهة التي تكتب العقد، وتفرض شروطه، وتفسّره، وتحسم التعويض هي نفس الجهة التي تستفيد ماديًا من تقليص التغطية والتهرب من السداد.
وفي ظل غياب جهة رقابية مستقلة فعالة، فإن المستفيد الفعلي من الحوكمة الحالية هو شركات التأمين نفسها، لا العملاء، ولا سلاسل التوريد.
أوصي بما يلي لإصلاح حوكمة التأمين في الشحن:
ختاماً، إذا كانت الحوكمة لا تُطبق عند الخسائر، فما قيمتها؟ وإذا كانت بنود عقود التأمين تحوّلت إلى أدوات مالية لحماية الشركات من العملاء، بدل أن تحمي العملاء من الخطر، فمتى يبدأ الإصلاح؟
فرض حوكمة صارمة في عقود التأمين، وإنشاء هيئات تحقيق وتحكيم مستقلة للنزاعات اللوجستية، لم يعد خيارًا بل ضرورة ملحّة للحفاظ على استقرار السوق. وجود جهة تنظيمية شفافة وعادلة تُعزز الثقة ومراقبة القطاع بدقة، يمثلان خط الدفاع الأول ضد الفساد و الهدر, و يحميان أموال المستثمرين و يعززان اقتصادنا الوطني.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال