الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعد السياسات العامة الإطار الاستراتيجي الذي يُمكّن الجهات الحكومية من تحويل الرؤى الطموحة إلى برامج تنفيذية تحقق الأهداف الوطنية بفعالية واستدامة. فالسياسة ليست مجرد وثيقة إدارية تُحفظ في الأدراج، بل هي عملية ممنهجة لإعادة تشكيل العمل الحكومي وتوجيه التفكير المؤسسي نحو النتائج. تشكل السياسات العامة الأداة المحورية التي تربط بين الرؤية الاستراتيجية العليا والقرارات التنفيذية اليومية، مما يضمن الاتساق بين الأهداف والخطط، ويوجه الموارد المؤسسية نحو تحقيق نتائج عملية قابلة للقياس ومستدامة على المدى الطويل. وفي زمن تتسارع فيه التغيرات وتزداد التحديات الاجتماعية والاقتصادية، تزداد الحاجة إلى سياسات فعّالة، قائمة على الأدلة، وقابلة للتقييم والتطوير المستمر.
لماذا تفشل السياسات في تحقيق الأثر؟ أظهرت دراسات متعددة، ومنها دراسة هارفارد، أن نحو 85% من البرامج الحكومية في المنطقة تعاني من ضعف الأثر. وتعود الأسباب في كثير منها إلى قصور في مرحلة تصميم السياسات، وعدم الاعتماد على بيانات دقيقة، وغياب تقييم الأثر الدوري والمتابعة والتعديل المستمر. أضف إلى ذلك تغييب صوت المستفيد الحقيقي، المواطن، أثناء مرحلة تصميم السياسة، وغير ذلك من أصحاب المصلحة من المؤسسات المدنية وغيرها ذات العلاقة. وفي هذا السياق، يحضر رأي المستشار د. محمد بن عبد العزيز الجرباء في كتابه “قياس الأثر التشريعي وأهميته في الأنظمة والقرارات العامة“، حيث يؤكد أن كثيرًا من الأنظمة والتشريعات تصدر دون دراسة كافية لأثرها المحتمل، ما يجعلها عرضة للفشل أو لنتائج عكسية لم تكن في الحسبان. وهذا ما يجعلني أؤمن بأهمية قياس الأثر التشريعي كعدسة مجتمعية نعيد بها النظر فيما نُخطط وننفذ.
في عمق السياسات العامة، تبرز السياسات الاجتماعية بصفتها المحك الحقيقي لمدى فاعلية السياسات العامة كلها، لأنها تعد أداة لتحقيق العدالة والحماية وتمكين الفئات الأكثر احتياجًا. لكن نجاحها وأثرها لا يُقاس بعدد البرامج المنبثقة منها أو حجم الميزانيات الموجهة لها، بل بمدى تحسينها لحياة الأفراد والأسر. فعندما تُنفذ سياسة للإسكان، هل يعيش الناس فعلًا في بيئة مناسبة وصحية؟ وعندما تُسن قوانين لذوي الإعاقة، هل يشعرون فعلًا بالاندماج في المجتمع؟ الجواب لا يأتي من السياسة المصاغة نفسها، بل من مؤشرات الأثر الواقعية المستندة إلى بيانات وشهادات المستفيدين وتقييمات محايدة، التي تقدم تصورًا يسهل لأصحاب القرار الاستمرار أو التعديل أو الإلغاء. ولأجل الوصول إلى هذا المستوى من النضج في صناعة السياسات وتحقيق نتائج ملموسة، هناك حاجة ملحّة لتبني نموذج ونهج شامل لقياس أثر التشريعات، يبدأ من تحديد أهداف دقيقة وقابلة للقياس، ويمر عبر إشراك أصحاب المصلحة من البداية باعتبارهم شركاء في صنع السياسات، وليس مجرد مصادر معلومات، ثم استخدام بيانات موثوقة ومتنوعة تشمل الأدوات الكمية والنوعية. كذلك الاستمرار في التقييم والمتابعة والتعديل عند الحاجة، والاستفادة من التطبيقات الرقمية والذكاء الاصطناعي في جمع وتحليل البيانات، وأخيرًا تعزيز قدرات الجهات المنفذة لرفع كفاءة التطبيق.
في هذا السياق، يشهد الوطن حراكًا وطنيًا متعددًا لتمكين الكوادر الوطنية في مجال السياسات العامة وتحليل الأثر، كأحد المحركات الأساسية لصناعة القرار المبني على الأدلة. ومن هذا المنطلق، بادرت وزارة الاقتصاد والتخطيط، مشكورة، إلى دعم هذا التوجه عبر “برنامج بناء القدرات الوطنية في قياس الأثر التشريعي“، الذي يستهدف تدريب كوادر الجهات الحكومية وشبه الحكومية لتعزيز قدراتهم في تقييم فعالية السياسات ومدى توافقها مع احتياجات المواطنين. كما تلعب كلية كابسارك للسياسات العامة التابعة لمركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية دورًا فاعلًا في دعم هذا المسار، عبر تقديم برامج متخصصة لبناء القدرات البشرية، تشمل الدراسات العليا والتعليم التنفيذي في مجال السياسات العامة، حيث تكرّس جهودها لإعداد جيل من القادة المتمكنين، وتزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة لإحداث تأثير مستدام في صناعة القرار.
المواطنون لم يعودوا مجرد متلقين للسياسات، بل هم المتأثرون بها، والمقيمون الحقيقيون لنجاحها. إشراكهم في مراحل التخطيط والتنفيذ والتقييم هو ما يجعل السياسات أكثر واقعية، وأكثر قبولًا، وأكثر قابلية للتحقق. وهذا التوجه يتناغم تمامًا مع رؤية المملكة 2030، التي وضعت المواطن في قلب مسار التنمية والتحول. وفي هذا السياق، يبرز ما كتبه الدكتور فيصل بن منصور الفاضل في صحيفة “مال“، حين وصف تقييم الأثر بأنه لم يعد مجرد أداة فنية، بل تحول إلى أداة إصلاحية حقيقية، تُسهم في تعزيز الشفافية، وتحسين جودة التشريعات، ومواكبة التطلعات. وتُعد إدارة السياسات في مؤسسة الملك خالد من النماذج الوطنية الملهمة في هذا المجال، حيث تُفعّل برنامجًا لتصميم السياسات وكسب التأييد، خصوصًا في المجال الاجتماعي، يرتكز على إشراك المجتمع المدني، وبناء التوصيات على تحليل البيانات والواقع الميداني، وليس على افتراضات مكتبية.
ولعل من الضروري اليوم التفكير في تخصيص وحدات داخل الجهات الحكومية الكبرى، خصوصًا تلك المعنية بالتعليم، والصحة، والتوظيف، تتولى مهام تقييم أثر السياسات لديها، وتحليل نتائجها، وتقديم توصيات تحسينها، بما يواكب أهداف التنمية المستدامة. أو إضافة هذا النطاق ضمن مقترح الكيان الذي كتبت عنه في المقال السابق “كيان وطني لقياس الأثر البيئي والاجتماعي: ضرورة استراتيجية في ظل التحول الوطني“. لقد حان الوقت الأن ننتقل من مرحلة إعداد السياسات إلى مرحلة تقييم أثرها وتطويرها المستمر، لأن ما لا يُقاس، لا يمكن تحسينه… وما لا يُطوَّر، يفقد أثره.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال