الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رغم التقدم التقني اللافت الذي يشهده قطاع الاتصالات في المملكة العربية السعودية، لا تزال تجارب العديد من المستهلكين تكشف عن فجوة واضحة بين ما يُعلَن من منجزات، وما يُمارس فعليًا في حماية الحقوق وإنصاف المتضررين. فعقود الخدمات المطوّلة، والرسوم غير المفصح عنها، والخدمات المفعّلة تلقائيًا دون طلب، وضعف التفاعل مع الشكاوى، جميعها ممارسات متكررة تُضعف مركز المستهلك وتجعله الطرف الأضعف في علاقة غير متكافئة، على الرغم من الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع في الحياة اليومية وفي منظومة التحول الرقمي الوطني.
هذا الواقع يبرز الحاجة الماسّة إلى إصلاحات جوهرية في المنظومة التشريعية والتنظيمية لحماية المستهلك، تبدأ من تطوير العقود النموذجية وتعزيز الشفافية في الإعلانات والعروض، ولا تقف عند توفير وسائل تظلّم فعّالة، تُمكّن المستهلك من تحصيل حقوقه دون أن يُرهق بكلفة زمنية أو إجرائية تفوق أصل المطالبة.
ورغم الجهود المشكورة التي تبذلها وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات وهيئة الاتصالات والفضاء والتقنية في تطوير الأنظمة واللوائح – مثل نظام الاتصالات وتنظيمات حماية المستخدم – إلا أن التحدي يكمن في التطبيق الفعلي، سواء من حيث سرعة الاستجابة، أو كفاءة المعالجة، أو إلزام الشركات بتصحيح الأخطاء وتعويض المتضررين. بل إن بعض الشكاوى تُغلق دون بيان الأسباب، مما يقوّض ثقة المستهلك في فعالية المنظومة الرقابية، ويُضعف من قدرتها على أداء دورها الردعي.
وتنعكس هذه الفجوة في معاناة يومية ملموسة، كحال من يُفاجأ أثناء سفره خارج المملكة بفواتير مرتفعة مقابل خدمة التجوال الدولي، رغم اشتراكه في باقات محددة أو تعطيله للخدمة أو حتى عدم استخدامه لها أصلًا. ومع ذلك، تُحتسب عليه رسوم دون إشعار مسبق، وتُخصم تلقائيًا من رصيده أو تُدرج في فاتورته، دون منحه حق الاعتراض أو التوضيح.
ويتكرر هذا المشهد في السوق المحلي، حيث تُخصم رسوم تلقائيًا لقاء خدمات لم تُطلب، كاشتراك في نغمات أو رسائل ترويجية، أو تجديد عروض بلا إذن صريح، دون منح المستهلك خيارًا واضحًا للرفض. وتتفاقم هذه الممارسات حين يُلزم المستهلك بدفع رسوم لحجب الرسائل الإعلانية، وكأن امتناعه عن الإزعاج أصبح “خدمة” مدفوعة لا “حقًا” مكتسبًا. إن تحميل المتضرر كلفة التعدي يعكس اختلالًا جوهريًا في مبدأ الإنصاف التعاقدي، ويستدعي تدخلًا تشريعيًا يُعيد تعريف الحقوق الأساسية للمستهلك ويُعزز مركزه التعاقدي.
وتتجلى أوجه القصور كذلك في ضعف الحوكمة في إدارة الشكاوى، حيث يغيب الاستقلال في اتخاذ القرار، وتضعف الصلاحيات في فرض الجزاءات، وتغيب مؤشرات الأداء الدورية التي تُقيّم تفاعل الشركات مع العملاء ورضاهم. كما يفتقر الإطار التنظيمي إلى قواعد حازمة تحظر الشروط التعسفية، وتُجرّم الإعلانات المضللة، والانقطاعات غير المبررة، وتفرض تعويضًا تلقائيًا عند وقوع الضرر الجسيم دون الحاجة إلى تقديم شكوى.
ولمعالجة هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى بناء شراكة مؤسسية فاعلة بين هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية وجمعية حماية المستهلك، باعتبار الأخيرة جهة مستقلة وذات خبرة تراكمية في رصد التجاوزات وتحليل التجربة الاستهلاكية. وتفعيل هذه الشراكة عبر تبادل البيانات، وتمكين الجمعية من مراقبة امتثال الشركات، من شأنه أن يعزز فعالية الرقابة، ويُسهم في تطوير السياسات التنظيمية على نحو أكثر عدالة وتوازنًا. كما يمثل استقلال الجمعية عنصرًا تكميليًا في تعزيز الثقة بالمنظومة. ويُضاف إلى ذلك أهمية تفعيل التعاون مع كيانات قانونية ومهنية كالمؤتمر السعودي للقانون، وجمعية إحسان للخدمات القانونية، وجمعية السياسات التنظيمية، لعقد فعاليات توعوية تسهم في تمكين المستهلك وتوسيع دائرة الوعي بحقوقه.
وانطلاقًا من ذلك، فإن من الضروري تحديث الإطار التشريعي لتنظيمات حماية المستخدم، بحيث يتضمن تفعيل مبادئ العدالة التعاقدية، واستحداث وسائل بديلة وسريعة لفض النزاعات، وربط تجديد التراخيص بأداء الشركات في خدمة العملاء، مع نشر مؤشرات شفافة تعكس الالتزام الفعلي بحقوق المستخدمين، وتقيس مستوى رضاهم، وتحدد التحديات التي تواجههم، بما يُمكّن من تطوير برامج توعوية موجهة وفعالة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى مشروع نظام حماية المستهلك الذي يُدرس حاليًا في مركز الحكومة، وهو مشروع واعد طال انتظاره لتعزيز البنية التشريعية لحماية المستهلك. ومع ذلك، يجب ألا يُنظر إليه كحل وحيد، بل كركيزة يُكملها إصدار تشريعات قطاعية متخصصة، تستهدف بوجه خاص مستخدمي خدمات الاتصالات. ويمكن الاستفادة من تجربة الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة، التي أرست مفهوم الحماية الاستباقية من خلال نظام سلامة المنتجات، في إطار يحوّل حماية المستهلك من استجابة لاحقة إلى التزام مؤسسي دائم.
كما يُعد إقرار آليات قانونية تتيح للمستهلكين المتضررين جماعيًا التقدم بدعاوى “المصلحة الجماعية” أو “الضرر الجماعي”، نقلة نوعية في حماية الحقوق، على غرار ما هو معمول به في بعض الأنظمة المقارنة مثل الكندي والبريطاني، إذ يُخفف ذلك من عبء التقاضي الفردي، ويُعزز من الردع المؤسسي، ويُعيد توازن العلاقة بين المستخدم ومزود الخدمة.
ولعل من اللافت أن الزيارات الدولية المتعددة التي يجريها معالي وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، ولقاءاته المكثفة بالمستثمرين، لم تتضمن – بحسب ما نُشر – الاطلاع المنهجي على التجارب الدولية في حماية المستهلك، أو الاستفادة من النماذج العالمية الملهمة في هذا المجال، على غرار ما نراه في اهتمامه بجذب الاستثمار، وهو ما يُعد فرصة مهدرة لإثراء السياسات المحلية بأفضل الممارسات.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن حماية المستهلك في قطاع الاتصالات ليست مطلبًا حقوقيًا فحسب، بل هي محرك اقتصادي وتنظيمي يُعزز كفاءة السوق وجاذبية البيئة الاستثمارية. ففي المملكة المتحدة، أنشأت هيئة الاتصالات (Ofcom) نظامًا مستقلًا للتظلمات يُتيح الفصل المحايد في النزاعات دون تكلفة. وفي سنغافورة، ارتبط تجديد التراخيص بتقارير ربع سنوية عن الشكاوى ومستوى المعالجة. أما كندا فقد تبنت سياسة “التعويض التلقائي” عند انقطاع الخدمة دون الحاجة إلى تقديم شكوى، في نموذج متقدم من الحماية الوقائية. وهي نماذج يمكن توظيفها في الإطار المحلي بما يُعيد الثقة بعدالة التنظيم.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن ضعف الحماية لا يُلحق الأذى بالمستهلك وحده، بل يُقوّض ثقة السوق، ويُضعف كفاءة التشغيل، ويُكبّد الجميع تكلفة معالجة متأخرة. وتشير الدراسات إلى أن كل نقطة مئوية إضافية في مؤشرات “ثقة المستهلك” تُترجم إلى نمو في الاستخدام، وزيادة في الإنفاق، وتوسّع في السوق، بما يجعل الحماية التنظيمية أداة تنموية بامتياز، لا تقل أهمية عن البنية التحتية أو التحول الرقمي.
ختامًا، فإن حماية المستهلك في قطاع الاتصالات لم تعد ترفًا تنظيميًا أو استجابة لشكاوى متفرقة، بل غدت التزامًا تشريعيًا وضرورة تنموية لاستدامة السوق الرقمية وعدالتها. وعندما تُحاط الحقوق بسياج من الإنصاف المسبق، لا الدفاع المتأخر، تغدو التقنية أداة للتمكين، لا وسيلة للهيمنة والاستغلال. وإن مستقبل هذا القطاع لن يُقاس فقط بسرعة الاتصال، بل بمدى عدالة العلاقة بين المستفيد ومقدم الخدمة، وشفافية التنظيم، وكفاءة الردع. فحماية المستهلك لم تعد خيارًا؛ بل هي معيار جودة لكل تحول وطني طموح.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال