الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في السنوات الأخيرة، باتت الشركات الاستشارية الأربعة الكبار (EY KPMG، Deloitte، PwC) تلعب دورًا محوريًا في صنع القرار داخل المنشآت السعودية، الحكومية والخاصة على حد سواء. لم يعد دور هذه الشركات يقتصر على تقديم المشورة الفنية أو المالية، بل أصبحت في كثير من الأحيان تمارس تأثيرًا مباشرًا على التوجهات الاستراتيجية، حتى كادت تحلّ محل الإدارات التنفيذية في التفكير واتخاذ القرار.
تاريخا:
بدأت هذه الشركات تاريخيًا كشركات تدقيق مالي، وكان دورها الأساسي هو فحص القوائم المالية والتحقق من التزام الشركات بالمعايير المحاسبية. ومن خلال هذا الدور، أصبح لديها اطلاع واسع على أوضاع الشركات، نقاط قوتها، تعثراتها، وهيكلها الإداري والمالي. مع الوقت، وبالاعتماد على الكم الهائل من البيانات التي جمعتها، انتقلت إلى تقديم “الاستشارات”، التي لم تُبنَ في معظمها على تحليل دقيق للشركة أو مدارس فكر إداري راسخة، بل على أنماط متكررة وتحليلات بيانات ومعايير قابلة للتعميم.
واقع التجربة:
توليت مشروعًا لإعداد لوائح الحوكمة والاستراتيجيات لعدد ثلاث منشآت سعودية، كل واحدة منها تعمل في قطاع مختلف تمامًا عن الأخرى ولا علاقة تربط بينها. ولأغراض العمل، قمنا – كفريق استشاري – بالتعاقد مع نفس شركة الاستشارات الدولية لكل واحدة من تلك الشركات، دون إبلاغ الشركة الاستشارية بأننا الجهة ذاتها التي تدير الملفات الثلاثة. النتيجة كانت صادمة: وجدنا أن المحتوى المقدم من الشركة الاستشارية متطابق بنسبة كبيرة، يكاد يقتصر الاختلاف على تغيير الأسماء والشعارات. لم يكن هناك أي تخصيص أو تفصيل يعكس طبيعة كل شركة أو احتياجاتها المختلفة، بل كان النموذج واحدًا، أُعيد تدويره ثلاث مرات. هذه التجربة كشفت بوضوح أن الكثير من “الاستشارات” ليست إلا قوالب جاهزة، يتم تكييفها سطحيًا فقط، دون جهد حقيقي لفهم البيئة والسياق والاحتياج الفعلي لكل جهة. وهنا يصبح السؤال مشروعًا: ما جدوى دفع ملايين الريالات مقابل ملفات لا تختلف كثيرًا عن ملفات جهات أخرى في قطاعات مختلفة؟
إشكالية المدير الظل (الجبان):
واحدة من الإشكاليات المتنامية في السوق السعودي هي “تفويض القرار” على الشركات الاستشارية، حيث لا يكتفي بعض المدراء التنفيذيين بالاستئناس برأي الشركة الاستشارية، بل يسلّمونها عمليًا مفاتيح القرار، ويصبح دورهم مجرد اعتماد التوصية وتوقيعها. وفي حالات كثيرة الاستشارة تؤخذ لتُدرج في تقرير يُقدّم للإدارة العليا، أو يُبرر به المدير التنفيذي قراره ويُستخدم لاحقًا في حال وقوع الإخفاق. هذا السلوك، الذي قد يبدو “حذرًا” في ظاهره، يعكس ضعفًا في تحمل المسؤولية القيادية.
وبدلًا من أن يكون المدير التنفيذي هو صاحب القرار والمُبادر، نجده يُخلي مسؤوليته خلف جملة “التوصية جاءت من الشركة الاستشارية”، متناسيًا أن المدير الحقيقي يُقيّم، يُفلتر، ويملك شجاعة القرار وليس فقط توقيعه.
المدير الذي يتخذ من تقارير الشركات الاستشارية وسيلة لتبرير قراراته، وليس لتطوير فهمه أو تحسين قراءته للواقع، هو مدير جبان. الجبن هنا ليس ضعفًا شخصيًا فحسب، بل تخلٍ عن المسؤولية والقيادة. فالشركة الاستشارية، مهما كان اسمها، لا يمكن أن تفهم السياق الداخلي للمنشأة بدقة، ولا أن تتحمل تبعات القرار.
ختاماً:
السوق السعودي لا ينقصه الكفاءات ولا العقول، بل ينقصه أحيانًا الإيمان بها. والمدير الحقيقي هو من يستفيد من كل الأدوات المتاحة له – ومنها الشركات الاستشارية – لكنه لا يتخلى عن سلطته ولا يتبرأ من قراراته. أما الاعتماد المفرط على هذه الشركات دون رقابة أو تقييم للعوائد، فهو تسليم غير مبرر للمسؤولية، وتفريغ للمناصب القيادية من جوهرها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال