الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في إطار السعي إلى تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي، برز توجه تنظيمي يُجيز للأطباء السعوديين العاملين في المستشفيات الحكومية ممارسة العمل في القطاع الخاص، بهدف رفع كفاءة النظام الصحي، وتحقيق أقصى استفادة من الكوادر الوطنية، والحد من هجرتها إلى القطاع الخاص أو الخارج. ورغم وجاهة هذا التوجه من زاوية تمكين الطبيب وتحفيزه، إلا أن تطبيقه دون إطار تشريعي ملزم يثير إشكالات تمس جوهر العدالة الصحية، وجودة الرعاية، وتوازن الالتزام الوظيفي.
إن منح الطبيب الحكومي ترخيصًا للعمل في منشآت خاصة قد يُفضي إلى تراجع التزامه بوظيفته العامة، خاصة مع الإغراءات المادية التي يوفرها القطاع الخاص. وتشير التجربة إلى أن هذا الانجذاب يؤدي – في كثير من الحالات – إلى ضعف الانضباط، وتأخر مواعيد المرضى، وتآكل تدريجي في ثقة المجتمع بكفاءة وعدالة المرافق الصحية الحكومية.
وتتعاظم خطورة هذه الازدواجية حين تقترن بممارسات تنطوي على تضارب مصالح مباشر، كقيام بعض الأطباء بتوجيه المرضى – تصريحًا أو تلميحًا – إلى عياداتهم الخاصة. إن غياب إطار رادع لهذه السلوكيات يُهدد مبدأ العدالة في الحصول على الخدمة الصحية، ويُكرّس واقعًا يميز بين القادرين على الدفع وغيرهم، ويترك من لا يملكون القدرة عالقين على قوائم الانتظار، في غياب أفق زمني واضح.
وفي محاولة لتقنين هذه الظاهرة، أصدرت وزارة الصحة في 15 أبريل 2022 ضوابط تنظيمية للسماح للأطباء بالعمل في القطاع الخاص خارج أوقات الدوام الرسمي، وذلك بعد موافقة مجلس الوزراء. وقد تضمنت هذه الضوابط عددًا من الاشتراطات، من أبرزها أن يكون الطبيب سعودي الجنسية ويحمل صفة “استشاري”، وحاصلًا على ترخيص مزاولة المهنة، ويمتلك خبرة لا تقل عن سنتين في ممارسة المهنة كاستشاري، إلى جانب سجل وظيفي جيد وتقييم أداء إيجابي خلال العامين الأخيرين. كما اشترطت الوزارة الالتزام التام بعدم العمل في المؤسسات الصحية الخاصة خلال ساعات الدوام الرسمي، مع تقديم إقرار رسمي بذلك، وإدارة الإجراءات عبر نظام إلكتروني موحد بين الجهات ذات العلاقة.
ورغم أهمية هذه الخطوة في تقنين ممارسة كانت تتم سابقًا بشكل غير رسمي، إلا أن الضوابط الصادرة – على أهميتها – تبقى في إطار تنظيمي محدود لا يرقى إلى تشريع ملزم، ولا تعالج بعمق قضايا تعارض المصالح أو انخفاض الالتزام الوظيفي داخل المرافق العامة، مما يجعلها غير كافية لضمان التوازن بين المصلحة الفردية والوظيفة العامة.
وتقدم التجارب الدولية نماذج جديرة بالاستفادة في هذا السياق، حيث تعاملت بعض الدول مع هذه الإشكالية بحزم مؤسسي ووعي تنظيمي متقدم. ففي المملكة المتحدة، يُلزم الأطباء العاملون في مستشفيات NHS بالإفصاح الكامل عن أي نشاط طبي خاص، ويُمنعون من الترويج له داخل المنشآت الحكومية، وتُربط صلاحياتهم المهنية بتقارير الأداء الوظيفي. أما في كندا، فتتبع أغلب المقاطعات نظام “التفرغ الكامل”، ولا يُسمح للطبيب بمزاولة العمل الخاص إلا ضمن ضوابط صارمة وتحت رقابة محكمة. وفي فرنسا، يُسمح بممارسة محدودة للنشاط الطبي الخاص داخل المستشفيات الحكومية بنسبة لا تتجاوز 30% من وقت العمل، شريطة الالتزام بتقارير دقيقة تضمن عدم الإخلال بجودة الخدمة العامة.
وتكشف هذه النماذج أن تنظيم الازدواجية ممكن ومطلوب، لكنه يستلزم إطارًا تشريعيًا ورقابيًا يوازن بين مصلحة الطبيب وجودة الخدمة العامة، ويحول دون أن تكون الممارسة الخاصة على حساب الوظيفة العامة أو حقوق المرضى.
وفي السياق السعودي، فإن أي توجه نحو تقنين ازدواجية العمل الطبي يجب ألا يقتصر على إجراءات تنظيمية أو إدارية، بل ينبغي أن ينطلق من تشريع متكامل يتضمن ضوابط واضحة، من بينها تحديد الإطار الزمني المسموح لممارسة العمل الخاص، ومنع تعارض المصالح، وربط الترخيص بمستوى الأداء المهني داخل المنشأة الحكومية، على أن يكون الأداء المتميز شرطًا أساسيًا للحصول على التصريح. كما ينبغي أن تُدرج في عقود العمل ولوائح السلوك المهني نصوص صريحة تحظر توجيه المرضى إلى القطاع الخاص، مع النص على جزاءات واضحة ومعلنة في حال الإخلال بذلك.
ومن الجوانب الجوهرية كذلك، ضرورة إنشاء وحدة رقابية مستقلة، تتولى مراقبة أثر ازدواجية العمل على كفاءة الخدمة العامة، وترصد مدى التزام الأطباء بالضوابط النظامية، وترفع تقارير دورية إلى الجهات المختصة. كما يجب أن يكون التصريح السنوي بمزاولة العمل في القطاع الخاص خاضعًا لتجديد مشروط، يُستند فيه إلى تقييم شامل للأداء، والانضباط، والتزام الحياد الوظيفي. ولتعزيز مبدأ الشفافية، من المهم نشر قائمة رسمية ومحدثة بالأطباء المصرّح لهم بالعمل في القطاع الخاص وأماكن عملهم، بما يُتيح للمجتمع ممارسة رقابة معرفية تقلص من فرص تضارب المصالح.
وفي الوقت ذاته، فإن المعالجة الجذرية لهذه الإشكالية تتطلب العمل على تحسين بيئة العمل داخل المستشفيات الحكومية، ومراجعة أنظمة الرواتب والحوافز، لجعل الوظيفة العامة خيارًا جاذبًا لا عبئًا مرحليًا، بما يعزز من التفرغ والالتزام، ويحد من النزوح غير المنظم نحو القطاع الخاص.
ختامًا، فإن تمكين الأطباء السعوديين وتحسين ظروفهم المهنية هدف مشروع وأولوية وطنية، إلا أنه لا ينبغي أن يتحقق على حساب جودة الرعاية الصحية العامة أو حق المريض في الوصول إلى خدمة منصفة وكفؤة. فالتوازن الحقيقي بين مصلحة الطبيب والمرفق العام لا يتم بإرضاء طرف دون الآخر، بل بصياغة نموذج وطني منضبط، يستند إلى تشريع دقيق، ورقابة فعالة، والتزام مهني صارم. ومن هنا، فإن التدخل التشريعي لم يعد خيارًا تنظيميًا مرنًا، بل ضرورة حتمية تفرضها مقتضيات العدالة الصحية، واستدامة كفاءة المرافق العامة، والحفاظ على الثقة في منظومة الرعاية الوطنية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال