من لف حول حدائق الرأسماليـة هذا الشَرَكْ!

يقول الشاعر والأديب السعودي الراحل محمد الثبيتي في شطر من إحدى قصائده الخالدة في عتاب لصاحبه: صاحبي! من لف حول حدائق روحك هذا الشَرَكْ!، في عتاب واضح لتغير حال صاحبه بعد أيام لهمـا عِظام! بعد كل الأعوام المديدة التي مرت على ظهور الرأسمالية، يُعاتبها رِفاقها الجُدد بقولهم: صاحبي مالذي غيرك؟ لما تشابكت أغصانها مع بعضها البعض لتصبح حدائقها الخّلابة يومًا ما، موحشة! لسان حال مؤيديها يقول من لف حول حدائق الرأسمالية الغناء هذا الشَرَكْ! أشواك مزقت حدائق الرأسمالية لتظهر بعد كل هذا على أنها نظام اقتصادي بخلل عظيم لا يمكن به أن يُصلح شأنها يومًا. الرأسمالية الذي كانت تجوب أطراف الاقتصاد مبتهجة، وتقول ويُقال عنها ” أنا النظام الأول والعادل على الدوام! “

لنجاوب على سؤال من لف الأسلاك المعقدة على روح الرأسمالية الناعمة، لابد من التعريف بشكل مبسط ماهي! النظام الرأسمالي ينص على أن الاقتصاد يعمل بشكل جيد دون تدخل من الحكومة، سوق حر تمامًا يصِل عند التوازن الطبيعي له من خلال العرض والطلب فقط، وليس له مركزية على الأطلاق، لكن كيف لنا أن نفســر دور الحكومة في فرض القوانين والتشريعات! الا يُعتبر هذا تدخل مباشر في دورة الاقتصاد وآليه العمل له؟ يقول هايك وهو رائد المدرسة النمساوية والذي ذاع صيته بعد فريدمان وكلاهما من رواد الاقتصاد الحر: أن الحكومة يكون عملها رسم خريطة دقيقة في التفاصيل والشوارع والطرق والمخارج، ولكن ليس مسؤوليتها كيف يسلكون الأفراد والمؤسسات هذه الطرق وأي المخارج يأخذون فهم بحرية كاملة في القرار! 

السؤال الأهم هنا بعد كل هذه السنوات التي مرت على كل من هايك وفريدمان ومدارسهم الاقتصادية الخالدة، كيف هما الان! لماذا التفت الأشواك على الرأسمالية والأسواق الحرة من كل جهة! فالأسئلة تقول أين هي تشيلي الآن بعد سنوات الإصلاح الطويلة؟ لماذا تتركز الثروة بشكل مرعب للغاية في لندن ونيويورك وغيرها من عواصم الأباطرة؟ لماذا انحصرت الوظائف الجيدة وذات المداخيل العالية بين يديّ الأغنياء فقط وذوي الدخل المرتفع؟ لماذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي العام على الرغم من أن الكثير من دول العالم تعمل مثل ما تنص النظريات النقدية والهايكية والرأسمالية؟ لماذا جودة السلع تنخفض على الرغم من أن التنافس والسوق المفتوحة تشجع على تعزيز كفاءة السلع وجودتها؟ لماذا تُسرق محافظ السيّاح في عواصم تتغنى بالسوق الحر؟ كثير من الأسئلة تُطرح، لكن على الأغلب لن يكون هناك أجوبة الا أن خلل ما يأكل في جسد النظام الرأسمالي لم يستطع أحد ما الكشف عنه.

ماركس كان أول خيوط الشَرَكْ، يقول ماركس بأن النمو في الرأسمالية هو مؤقت فقط، لو كان هناك قطاع ينقصه سلعة ما، فتم توفيرها بسبب الحاجة لها، ستنمو الشركات التي جاءت بها الاختراع الجميل، سينمو الاقتصاد، ستحاول الشركات الأخرى استغلال الفرصة والدخول في السوق للاستفادة من الحاجة هذه، ثم ماذا! يتشبع السوق تمامًا من هذه السلع، ثم يتوقف بذلك النمو، ويعود من جديد الى مستويات متدنية حتى يتم اكتشاف حاجة ما ويعود النمو من جديد! لتكون بذلك حركة غير مستقرة على الأطلاق. توقف ماركس الى هذا الحد، جاء كينز ليقول بأن من المتوقع ألا يعود النمو، بل يستمر الاقتصاد في ركود بعد النمو السابق، مالحل الان؟ كان تساؤلاً رائعًا جاء بالجواب عن كيف للاقتصاد الأمريكي أن يخرج من أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، قال كينز أن الحكومة لابد من أن تتدخل، انتظار التصحيح ليس هو الخيار المناسب.

جاء ماركس بالقول إن السعي فقط للربح الذي تدعمه نظريات السوق الحر سيعمل على تدمير شكل الأنسان الحديث والبيئة والتفكير، جاء ذلك على لسان المؤسس سميث أيضًا، حيث يقول بأن تقسيم العمل – أهم نظريات أدم سميث – سوف تعمل على إخراج أنسان لا يفكر على الإطلاق و “غبي ” بسبب أنه يأتي الصباح على خط الإنتاج الخاص به، يكرر العمل، يذهب للمنزل من جديد، ويكرر ذلك في الغد، فقط! بمعنى أخر: سينمو الاقتصاد، ولكن سينمو بشكل غير مستقر وذو جودة منخفضة. جاء النقد بشكل مكثف على تركيز الثروة في اقتصاد الرأسمالي في الطبقة المخملية، تحدثنا عن ذلك من قبل كإحدى أكبر المعضلات العصية على الحل أو بالأصح حتى في محاولة الحل، هكذا هي دورة النظام، هكذا تتهادى، لا يمكن أن يكون هناك حل الا بمعجزة!

جاء نقد رائع من فيليمنج في كتاب له سنتحدث عن بالتفصيل في مقال قادم بسبب رؤيته الجريئة والمنطقية والقريبة من الواقع الحالي، حيث يقول أن الرأٍسمالية جاءت بنظام ” رأسمالية الشوقردادي ” كما يُطلق عليه، حيث أن القوة التفاوضية للأفراد وبين أصحاب العمل منخفضة للغاية، وبالتالي يتم التحكم بهم بشكل عنيف واستغلالي في كثير من الحالات المتكررة، وانتقل الى العلاقة أيضًا ذات قوة تفاوضية منخفضة بين الحوكمة وبين الشركات، وستعمل الشركات كيفما تشاء! ويصل بها الحال أنها تفرض بعض القوانين والتشريعات في بعض الأوقات بدلاً من الحكومة المخولة بذلك. يطول الحديث عن انتقاد الرأسمالية في كثير من الأوجه بشتى أشكالها المالية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، لكن من المهم أن يُدرك القارئ بأن الشكل الحالي للرأسمالية لن يبقى كما هو، بالتأكيد ستنحل أجزاء كبيرة من الخلل، ولكن سيظهر بالتأكيد خلل أخر من تلك الحلول القادمة، ليستمر الحديث.. ويعود للذاكرة الشطر الأخر من رائعة الثبيتي: ” صاحبي.. لا تمل الغناء فما دمت تنهل صفو الينابيع شق بنعليك ماء البركْ. “

رأي: قد يكون هناك من يؤمن بأن التداخل بين جميع المدارس الاقتصادية هي الحل المنتظر، يكون اقتصاد خليط من بين سميث، ماركس، كينز، هايك، فريدمان وآخرون!