الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تُعد الجمعيات العمومية حجر الزاوية في منظومة الحوكمة للشركات المدرجة، إذ تمكّن المساهمين من ممارسة حقوقهم النظامية في الرقابة والمساءلة والمشاركة في اتخاذ القرارات الجوهرية. ويُقاس نضج الحوكمة بمدى فاعلية هذه الجمعيات في ترجمة النصوص إلى ممارسات تضمن الشفافية والعدالة، وتنسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 في تعزيز بيئة استثمارية عادلة وشفافة وجاذبة.
غير أن الواقع العملي يكشف أحيانًا فجوات في التطبيق، كما حدث مؤخرًا في إحدى الجمعيات العمومية العادية المنعقدة افتراضيًا لإحدى الشركات المدرجة، حين تم قطع الاتصال عن أحد المساهمين ومنعه من استكمال الحضور، رغم مشاركته النظامية وبدئه في طرح الأسئلة. هذه الحادثة تمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الشركات بروح النصوص قبل حروفها، خصوصًا ما يتعلق بحقوق المساهمين في الحضور والمشاركة. فهي ليست مجرد خلل إجرائي عابر، بل مساس جوهري بمبادئ الحوكمة، وفي مقدمتها العدالة والشفافية وتمكين المساهمين.
تنظيم الحوار لا يبرر حرمان مساهم من حضور الجمعية أو حذفه تعسفًا من النظام الإلكتروني دون مبرر نظامي، وهو ما يُعد مخالفة لنظام السوق المالية، ونظام الشركات، ولائحة حوكمة الشركات. كما تكشف هذه الواقعة عن الحاجة إلى مراجعة الحوكمة العملية لاجتماعات الجمعيات العمومية، خاصة مع التحول إلى النمط الإلكتروني الذي يتطلب ضوابط دقيقة تضمن المساواة والشفافية. فالنصوص وحدها لا تكفي إذا لم تُفعَّل بآليات عملية تحمي حقوق المساهمين، ولا قيمة للتقنيات إذا تحولت إلى أدوات للإقصاء بدلًا من التمكين.
وتقتضي الحوكمة الرشيدة تمكين جميع المساهمين من الحضور – حضوريًا أو إلكترونيًا – على نحو متكافئ، وضمان حق الجميع في طرح الأسئلة والتفاعل مع الالتزام بآداب الحوار، وتوثيق جميع المداخلات والأسئلة والإجابات في محاضر الجمعية لضمان المساءلة اللاحقة. كما أن إتاحة حق الطعن في إجراءات الجمعية أمر أساسي إذا ثبت منع أحد المساهمين من ممارسة حقوقه، وفقًا للمادة (88) من نظام الشركات، متى كان المنع مؤثرًا في النتائج.
ومن أجل تعزيز هذا الحق الأصيل، يُقترح إدراج نص صريح في لائحة حوكمة الشركات أو اللائحة التنفيذية لنظام الشركات يمنع فصل أو حذف أي مساهم من حضور الجمعية إلا لسبب نظامي موثق، مع حفظ حق الاعتراض، وأن تنص اللائحة على بطلان قرارات الجمعية متى ثبت المنع دون مبرر مشروع وكان مؤثرًا في النتائج. كما يُستحسن إلزام الشركات بإعداد تقرير تفصيلي يُرفق بمحضر الجمعية، يوثق فيه المداخلات والأسئلة والردود، والمداخلات التي تم رفضها وأسباب ذلك.
ويتطلب الأمر إصدار دليل إجرائي واضح لإدارة الجمعيات الإلكترونية، يحد من السلطة التقديرية في إغلاق الصوت أو منع الدخول، ويضمن بيئة تشاركية عادلة. كما أن إدراج معيار “تمكين المساهمين” ضمن مؤشرات تصنيف الشركات السنوي سيعكس مستوى الحوكمة الفعلية ويحول دون اقتصارها على المظاهر الشكلية.
ويظل البعد التوعوي عنصرًا مكملًا، إذ يسهم تعريف المساهمين بحقوقهم وآليات حمايتها في توازن العلاقة بين المالك والإدارة، ويفعّل دور الجمعيات كأداة رقابية. ويمكن تعزيز هذا الوعي من خلال حملات تثقيفية، وأدلة إرشادية داخل المنصات الإلكترونية، ومواد بصرية مبسطة لتأهيل المساهمين الجدد حول كيفية الحضور وطرح الأسئلة وقراءة المحاضر.
وقد أظهرت التجارب الدولية – كما في المملكة المتحدة وسنغافورة وكندا – فعالية التشريعات التي ترتقي بمشاركة المساهمين من مجرد تصويت على قرارات المجلس، إلى شراكة استراتيجية في التوجيه والمساءلة. ففي المملكة المتحدة، تُلزم “مدونة حوكمة الشركات” الشركات المدرجة بتمكين المساهمين من الوصول إلى الوثائق مسبقًا، وضمان المشاركة الإلكترونية المتكافئة، وتسجيل المداخلات رسميًا، مع توفير آلية رقابية فورية على المنصات الإلكترونية لمعالجة الشكاوى أثناء الاجتماع. أما في سنغافورة، فتُعزز الجمعيات العمومية بتقنيات تفاعلية مدعومة بالذكاء الاصطناعي لقياس التفاعل وتضمين نتائجه في التقارير السنوية، بما يرفع مستويات الشفافية والمساءلة. ويمكن تكييف هذه الممارسات مع البيئة النظامية السعودية بإضافة آلية رقابية فورية داخل المنصات، وربط نتائج التفاعل بالتقارير السنوية لتعزيز المصداقية والمشاركة الفاعلة.
ختامًا، إن تطوير حوكمة الجمعيات العمومية لا يقتصر على حماية حقوق المساهمين فحسب، بل يعكس التزام المملكة بتطوير بيئة السوق المالية وفق رؤية السعودية 2030، التي تضع الشفافية والحوكمة الرشيدة في صميم جاذبية الاستثمار وتعزيز ثقة المستثمرين. فالمساهم ليس متفرجًا ولا مجرد رقم في كشف الحضور، بل شريك أصيل في القرار، وغيابه القسري يجب أن يقابله تشريع أكثر حزمًا، وإجراءات أكثر شفافية، ورقابة أكثر فاعلية، ليبقى السوق المالي السعودي نموذجًا إقليميًا ودوليًا في النزاهة والعدالة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال