الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في المدن الكبرى، لا تبدأ الفوضى من الداخل، بل تزحف من الأطراف. تسلك طريقها بهدوء، تختبئ خلف المظاهر اليومية، وتتسلل بين تفاصيل الحياة التي نظن أنها تحت السيطرة. وفي لحظة عابرة، يكتشف الناس أن النظام الذي بُني ليمنحهم الأمان قد اخترق من باب لم يتوقعوه. لا يحتاج العبث إلى إعلان، يكفيه الغياب المؤقت للرقابة ليقيم سوقًا موازيًا يتحكم في الناس والفرص ويضع شروطه الخاصة التي لا تشبه قوانين الدولة ولا تحترم طموحات التغيير.
هذا المشهد يمكن رؤيته بوضوح عند مدخل معارض السيارات في الرياض، إذ تصطدم بسيارات متعطلة عمدًا تغلق الطريق المؤدي إلى السوق، وتجد نفسك محاصرًا بأشخاص يصرّون على أن البيع والشراء لا يتم إلا من خلالهم. الدخول لا يتم إلا بعد المرور عبرهم، وكأن الأمر أشبه بدفع أتاوة غير معلنة لإكمال الطريق.
الواقع أن هؤلاء لا ينتمون للمنظومة النظامية، بل يمارسون أدوارًا لا تخضع لأي جهة رسمية. يغلقون الطرق، يخفون وجوههم، ويتوارون خلف السيارات عند اقتراب الأمن، ويسيطرون على حركة السوق بأساليب بدائية بعيدة عن بيئة الرياض الحديثة. هذه الممارسات خلقت بيئة طاردة للتجار الحقيقيين، وأجبرت الكثير من أصحاب المعارض على إغلاق نشاطاتهم أو تقليصها، مع أن معارض السيارات تمثل قطاعًا اقتصاديًا ضخمًا يضخ مليارات الريالات سنويًا في السوق المحلية، ويعد شريانًا حيويًا في حركة التجارة الداخلية، ما يجعل استمرار الفوضى تهديدًا مباشرًا لهذا المورد الاقتصادي الكبير.
لا يمكن إغفال أن الجوازات عند حضورها تفرّق الجميع، وأن المرور يساهم في التنظيم بقدر الإمكانات، لكن المشهد ما زال بحاجة إلى إعادة ضبط شاملة. والمفارقة أن السوق نُقل في وقت سابق من داخل المدينة إلى أطرافها لتخفيف الزحام المروري، إلا أن الزحام انتقل إلى الشوارع المحيطة، والطريق الرئيسي المؤدي للسوق يُغلق أحيانًا بالكامل بفعل هذه الممارسات.
هذا النقل جاء ضمن جهود تطويرية تهدف إلى تنظيم العاصمة والارتقاء بجودة الحياة، وهي جهود يقودها سمو أمير منطقة الرياض وسمو نائبه المعروفان بدقتهما وحرصهما الشديد على متابعة التفاصيل ميدانيًا ومعالجة أي مظاهر تشوه المشهد الحضاري، إلا أن بعض الممارسات الميدانية لا تزال بعيدة عن هذا التوجه وتحتاج إلى تدخل عاجل يعيد الانضباط للسوق ويحقق الغاية من نقله.
هنا تبرز أهمية تحرك صناع القرار، من وزارة التجارة ووزارة البلديات والإسكان ووزارة الداخلية عبر أجهزتها الأمنية، إضافة إلى الهيئة العامة للمنافسة وهيئة الزكاة والضرائب والجمارك، لوضع حلول عاجلة ومبتكرة تحمي هذا القطاع الحيوي. من بين هذه الحلول إنشاء بوابات تنظيمية رسمية على مداخل السوق يشرف عليها موظفون معتمدون لضبط حركة الدخول والخروج ومنع أي ممارسات غير نظامية، وتكثيف الرقابة المرورية في أوقات الذروة وأيام الإقبال عبر دوريات ثابتة ومتحركة لمنع الاختناقات، وتفعيل الرقابة الإلكترونية بالكاميرات الذكية لرصد المخالفات وتوثيقها وفرض عقوبات فورية على المتورطين، إلى جانب إعادة تصميم الحركة المرورية في المنطقة المحيطة بالسوق عبر مداخل ومخارج بديلة ومسارات خاصة للشاحنات والمركبات الثقيلة، وتوفير مواقف منظمة تخدم البائعين والمشترين، مع تخصيص فرق ميدانية مشتركة دائمة من الجهات المعنية تضمن استقرار السوق بشكل مستمر، وإطلاق منصة إلكترونية رسمية لتوثيق عمليات البيع والشراء وربطها بالجهات المختصة بما يضمن الشفافية والثقة.
وإلى جانب هذه الحلول التنظيمية والرقابية، يمكن تحفيز الاستثمار في السوق عبر تطوير البنية التحتية والخدمات، وإنشاء مناطق عرض حديثة مجهزة بأحدث التقنيات لزيادة ثقة المشترين، وتخصيص مساحات لشركات التمويل والتأمين، وتوفير مناطق خدمية تشمل المطاعم والمقاهي والمرافق العامة لجذب المزيد من الزوار، وتشجيع إقامة فعاليات ومعارض سيارات موسمية تنشط الحركة التجارية وتعزز الإيرادات.
هذا الدمج بين الضبط والتنظيم والتطوير الاستثماري سيحوّل السوق من بيئة فوضوية إلى نموذج اقتصادي منظم يواكب طموحات الرياض الحديثة ورؤية 2030.
ختام ما أقول.. في وطن يصنع مستقبله بخطى واثقة، ويواصل تعزيز النظام والانضباط، لا مكان للفوضى ولا فرصة للمخالفات أن تعرقل المسيرة. ما يحدث في معارض السيارات لا يعكس روح الرياض الحديثة ولا طموح رؤية 2030 التي تنشد التميز في كل قطاع، وهنا تأتي الدعوة لإعادة ضبط السوق وضمان استمراره منظمًا ومتطورًا بما يواكب النهضة التي نعيشها ونفخر بها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال