الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قال نابليون في ذكرياته “إن عظمتي الحقيقية ليست في المعارك الأربعين التي خضتها وأحرزتُ فيها النصر .. إن ما لا يمكن نسيانه، وما سيبقى أبد الدهر فهو مدوَّنتي القانونية” (منقول من قصة الحضارة ول ديورانت).
وبالفعل هذا ما أثبته التاريخ، إذ إن ما بقي واستمر لقرون هو هذا القانون المدني الفرنسي الذي أمر نابليون بالبدء بصياغته عام 1800م وبدأ العمل به عام 1804م واستمر العمل به إلى يومنا هذا، أي امتد أثره لقرنين من الزمان.
بل ولم يقتصر هذا الأثر على فرنسا وحدها، بل امتد إلى العالم بأسره، أغلب الدول الأوروبية رغم معاداتها لنابليون في ذلك لوقت، استمدت قوانينها من القانون المدني الفرنسي، وكذلك فعلت دول أمريكا الجنوبية وبعض الولايات في أمريكا الشمالية، كل هذه الدول استفادت بشكل مباشر في صياغتها لقوانينها من هذا القانون وساهم ذلك في تشكيل مدارسها وفقهها القانوني إلى هذا الوقت.
وليس عالمنا العربي بمنأى عن هذا الأثر الجوهري والعميق، فرغم أن الحملة الفرنسية على مصر لم تدم أكثر من ثلاث سنوات (1898م إلى 1801م) إلا أن الأثر الفكري والحضاري الفرنسي على مصر كان وما زال أعمق وأشد تأثيرا من الاستعمار البريطاني الذي امتد لعشرات السنين، وقد كان من أهم وسائل التأثير الفرنسي على مصر هو القانون المدني الفرنسي، الذي يعتبر من أهم مصادر القانون المدني المصري.
ومن مصر امتد التأثير القانوني الفرنسي إلى باقي الدول العربية، إذ كانت مصر هي مشعل الحضارة العربية آنذاك، ولذلك صيغت كثير من القوانين المدنية في الدول العربية معتمدة على القانون المدني المصري الذي هو في الأصل معتمد على القانون المدني الفرنسي.
إن القانون المدني الفرنسي كان من أهم الوسائل الحضارية التي جعلت فرنسا منارة للفكر والفقه والفلسفة القانونية للعالم بأسره، وكان لذلك العديد من الآثار الفكرية والاجتماعية والقانونية التي امتدت لقرون.
إن اللحظة التاريخية التي أعلن فيها عن المنظومة التشريعية الجديدة في المملكة العربية السعودية ذكرتني باللحظة التاريخية التي صدر فيها القانون المدني الفرنسي.
خلال السنوات الخمس الماضية صدرت قوانين عديدة في المملكة، إلا إن هذه المنظومة لها اعتبار خاص ومهم جدا، ولذلك فأثرها سيكون مختلفا وأكثر عمقا، إذ أن هذه المنظومة التشريعية بمجموعها تشكل القانون المدني في المملكة العربية والتي توازي القانون المدني الفرنسي، وبالتالي فإن لها علاقة بكل فرد من أفراد المجتمع، وليست خاصة بقطاع معين، كالتجار أو الشركات أو المصانع أو غيرها.
لقد تميزت هذه المنظومة التشريعية بعدة عوامل أساسية، يكسبها قوة التأثير وسطوة التغيير، صيغت هذه التشريعات بمراعاة كاملة للشريعة الإسلامية باختلاف المذاهب الفقهية، برؤية عصرية تناسب حياة المسلم في القرن الواحد والعشرين، وبذلك تكون حققت هذه التشريعات هدفين أساسين، الالتزام بالشريعة كمبدأ أساسي للفرد المسلم، وتنقيح الفقه من الاجتهادات التي لا تناسب هذا القرن وفي نفس الوقت لا تعتبر من أصول الشريعة.
وفي جانب آخر تميزت هذه التشريعات بأنها استفادت من التجربة التاريخية للقوانين المدنية العربية التي استمدت من القانون المدني المصري (والمستمد أصلا من القانون الفرنسي) وأخذت بعين الاعتبار النجاحات والإخفاقات التي حققتها هذه القوانين، وهي تجربة ثرية ومتنوعة بلا شك.
وأخيرا وليس آخرا، صيغت هذه التشريعات برؤية استشرافية للقرن الواحد والعشرين، والذي يتميز بأنه عصر المعلوماتية والسيبرانية، وهذا يجعلها قابلة للعيش والتطبيق بمرونة وسهولة لقرون قادمة بإذن الله تعالى.
هذه المنظومة التشريعية بخصائصها الثلاثة – البعد الشرعي، والاستفادة من التجربة القانونية التاريخية، والرؤية الاستشرافية لعصر المعلومات- ستحدث نقلة نوعية في الفكر الشرعي والقانوني في المملكة العربية السعودية، وستحدث تطورا كبيرا في أروقة القضاء وكليات الشريعة والقانون، وسيمتد هذا الأثر لقرون، ولن يقتصر ذلك على المملكة العربية السعودية بل سيمتد الأثر إلى العالم العربي بأسره.
هذه المنظومة التشريعية تمثل التطبيق العملي لهوية المملكة العربية السعودية الجديدة (البعد الشرعي، الاستفادة من التجارب التاريخية، والرؤية الاستشرافية للمستقبل) وستكون المملكة مرجعا للعالم في هذا المجال تكتب التاريخ من خلاله، كما فعلت فرنسا من قبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال