الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا يوجد في العالم اليوم شخص معادٍ للتطوُّر-عدا فئة ضئيلة من الجاهلين بأحوال التكنولوجيا واقتحامها لأنظمة حياتنا لتسهِّل ما تعسِّره باقي النُظُم. ولكن حين تتحول التقنية إلى فزّاعة تهدد أمننا الفكري لربما نجد حاجة هامة للتصدِّي لها حتى من قبل أن تحدُث.
لعلَّك تتساءل ماالسبب وراء هذه المقدمة، وإليك الخبر:
وصلتني منذ فترة رسالة من صديق بعد قرائته لإحدى المقالات، وقد استوقفتني، بل وأصابتني بالفزع مضمون المقال كالتالي:
قبل حلول 2030 .. تقريبا.. ستصلك الرسالة التالية على هاتفك .. وعليك ان تكون مستعدا لها: “على الجميع إيداع جميع الأموال النقدية في البنوك لتحويلها للعملة الرقمية قبل نهاية هذا العام .. وبعد هذا التاريخ .. جميع العملات الورقية ملغاة وغير قابلة للتصرف.”ستتشكل معارضة قوية من فئات مختلفة بالمجتمع لمقاطعة هذا القرار، وستنتشر نظريات كثيرة لتفسير اسباب وأهداف هذا التغيير، ولن تقوم فئات عدة بإيداع النقود كنوع من الاعتراض والضغط والممانعة. لكن في نهاية العام، وعند تفعيل العملة الرقمية كعملة وحيدة، سيدرك هؤلاء ان نقودهم باتت بلا قيمة، ولن يتم قبولها تجاريا، وانهم مفلسون ولا يستطيعون شراء أي شي مقابلها. عندها سيطالبون، بذعر، لتمديد فترة الإيداع لبضعة أسابيع، لتحويل نقودهم للعملة الرقمية، وهذا ما سيكون.
المرحلة الاولى: راتبك لك وانت حر التصرف به. هذا التحول الحتمي هو الغاية القصوى لمعظم حكومات العالم، لرصد وتوثيق جميع الحركات المالية في البيع والشراء وحساب الرسوم والضرائب بدقة، دون اي تهرب ضريبي لمواطنيها وشركاتها.
ستكون الثروة الحقيقية للجميع معلومة للأنظمة الحاكمة، وموثقة بشكل كامل بجميع تدفقاتها، فلا مكان لايداع نقودك الا في النظام الرقمي المسيطر عليه كليا من قبل الحكومة، وسيختفي مفهوم الكاش. وهنا ستبدأ ملامح الحدود الجديدة التي لا تستطيع ان تتجاوزها، والتي عليك ان تستعد لها من الان. تدريجياً، وبعد دخول الجميع في هذا الممر الرقمي، ستظهر الرواتب الملونة كمفهوم جديد، وسيتم إحياء نظام المقايضة كرد فعل تلقائي. يقوم مفهوم الرواتب الملونة على تقسيم صافي الدخل الشهري والسنوي للأفراد والمؤسسات لفئات (الوان) مشروطة التداول، فالراتب الشهري سيقسم الى الوان بنسب متفاوتة، وكل لون تستطيع استخدامه ضمن اطار معين.
اللون الاول مثلا، وسنختاره هنا الابيض، هو عابر للقارات، وتستطيع كمواطن ان تشتري به (محليا أو دوليا) سلع وخدمات من أغلب دول العالم، وسيكون لون التجارة الدولية والشراء عبر الانترنت والمنصات العالمية. يليه اللون الازرق، وهو ذلك الجزء من دخلك الذي تستطيع فقط استخدامه محليا داخل حدود بلد الدخل لدعم الاقتصاد المحلي، وسيكون هذا اللون ضامن للتدفقات النقدية داخل اقتصاد الدولة والمحرك الأساسي لها. يليه اللون الأخضر، وهو ذلك الجزء من راتبك الذي تستطيع إنفاقه على خدمات أو مستهلكات معينة تحددها الدولة لك، فإذا انقضى الشهر ولم تستهلكه، لا يتم تجديده لشهر آخر، تماما كما هو الحال مع شركات الإتصال وباقات الإنترنت الشهرية، فما لا تستهلكه في نفس الشهر، يذهب من رصيدك، وهكذا سيكون جزء من دخلك الشهري! اللون البني، وهو لون محدد جغرافيا داخل حدود بلد الدخل لدعم منطقة معينة، وضمان وصول التدفقات النقدية لها.
مثلا تقوم الدولة بتحديد جيوب سياحية او زراعية او ريفية معينة باللون البني، لإجبار جميع المواطنين بصرف جزء من دخلهم ضمنها. اللون الاصفر، وهو لون محدد بفئة معينة من التجارة او المطاعم او الترفيه الذي ستفرض الأنظمة الحاكمة على مواطنيها والمقيمين فيها إنفاقها فيه بشكل شهري. أما اللون الأحمر، وهو لون مؤقت يظهر لدعم قطاع معين او توجيه سياسة معينة في فترة معينة، مثلا تخصيص جزء من دخل المواطن أو الشركات لدعم أنشطة حكومية او أندية أو إطلاق خدمة جديدة، وذلك في وقت الركود مثلاً، او كتشجيع لتلك البادرة الحكومية التي تهدف في النهاية إلى إعادة برمجة العقل البشري ليكون مطواعا بيد تلك الحكومات والأنظمة، ومنصاعاً لتعليماتها، ومنقاداً بشكلٍ أعمى وراء جميع مخططاتها. المرحلة الثانية: راتبك لك وانت حر التصرف به، ضمن خيارات محددة من الدولة.
الترجمة المبسطة للرواتب الملونة، هو ان يكون فرضا راتبك الشهري يعادل الف دولار رقمي، سيكون منهم مثلا 300 دولار ابيض، 300 دولار ازرق، 200 دولار اخضر، 100 دولار بني، و 100 دولار اصفر. وسيبقى الدولار الأحمر الذي يظهر في مواسم معينة لتحقيق سياسات معينة. سيكون لأنظمة الدول الحجة والأدوات للسيطرة على المواطنين والزوار والمقيمين والسياح وغيرهم، عبر التحكم بدخلهم الشهري. فتحرم هذا وتكافئ ذاك بناءًا على انصياعهم للقوانين وتقبّلهم للنظام العالمي الجديد. المراقبة الرقمية الصارمة للتداول النقدي داخل الدولة وعبر القارات، ستشكل تهديدا لاستمرار الدخل لبعض الدول والمنظمات والجماعات المدرجة ضمن القوائم السوداء في المجتمع الدولي.
“عصر الكاش” قد انتهى حتى على مستوى الفرد الراغب بدعم جمعية او منظمة معينة، وسيطفو على السطح أقدم نظام تجاري عرفته البشرية، “المقايضة”! “التزم، أو سيتم حجب التدفقات النقدية عنك بكبسة زر!” سيُجبَر كل من يريد التغريد خارج هذه المنظومة الرقمية، ان يقوم بذلك عبر مقايضة سلعة بسلعة وخدمة بخدمة، ولن يتم ذلك بسهولة.
والآن بعد قراءة ماسبق بالتأكيد أُصبتَ بالفزع مثلي في المرة الأولى، لكنني بدوري هنا لأطمئنك فلم أشترِ من هذا الكلام ماقد بيعَ وروِّج له، ويمكنني القول بكل ارتياح أنه لم يكن سوى هراءًا، وسأثبت ذلك بالأدلة المنطقية والموثوقة، لذا انتبه جيدًا:
من المعقول جدًا لعقولنا أن تصدِّق فكرة اختفاء العملات الورقية أو الكاش، أمر عادي واحتمال مستقبلي يمكن للعقل الإيمان به، مثلها مثل فكرة العيش على كواكب أخرى غير الأرض لأنه لا شئ بات مستحيلًا خاصةً وأنَّ ماظنناه محال أمس بات واقعًا نعيشه اليوم بالفعل، ولكن الغير معقول هو مسألة الفرض واختزال الحكومات كافة قوانينها المتنوعة التي تدعو دومًا لراحة مواطنيها-داخل بوتقة من الديكتاتورية الاقتصادية المتزمتة.
*خطورة الالتزام بالعملات الورقية على الأمن القومي(1)
تتمثل أهمها في استخدام مجرمو الإنترنت لها كوسيلة للحصول على فدية بعد بتشفير بيانات الأشخاص واستخدامها في الأنشطة الغير مشروعة كالمخدرات وغيرها. وأحد الأمثلة على ذلك ما لاحظه “آرون برانتلي” من أكاديمية ويست بوينت العسكرية، عندما وجد إعلانان إلكترونيّان بما يُزعم بالدولة الإسلامية في العراق والشام، والتي اكتُشفَ أنها إحدى الجماعات الإرهابية وأنها تستخدم العملات الافتراضية كوسيلة خفيّة للقدرة على تمويل حاجتها، أي دولة ستسمح باختراق أمنها القومي بهذا الشكل!
*عدم نجاح تجربة فرض العملات الافتراضية ببعض البلدان
فإن كنا نخاف مما من المتوقع أن يحدث، مابالك إن علمت أنه حدث بالفعل وباء بالفشل، فقد قام بعض أنصار الحركات الانفصالية في بعض البلدان المتقدمة كاسكتلندا ولم تلقَ أي دعم شعبي، كما أطلقت في أيسلندا أوروراكوين بمثابة وسيلة للاعتراض على النظام الحكومي الصارم المعتمد في وجهة نظرهم على قيد العملة الورقية ولكن أيضًا هذا الاعتراض لم يعار له أي اهتمام(2)، وهذا إن دل يدل على عدم وجود نيّة في الاهتمام بطرح الفكرة من الأساس.
*مشكلة التعامل مع التقنية(3)
هل من المنطقي تعميم استخدام عملة أساسها يعتمد على التصميم الإلكتروني في مجتمعات مازال الكثيرين فيها غير حاملين للهواتف الذكية حتى وأغلب حامليها غير مدركة لكيفية استخدامها!
فماذا لو رغبت هذه الفئات في الادخار أو الاستثمار أو شراء مستلزمات الحياة اليومية، نعم يمكن للبعض توظيف من ينوب عنهم في ذلك لكن هل يستطيع البعض الآخر؟ بكل تأكيد مُحال، فضلًا عن كم الوقت المدخر هباءًا في حين أنَّ مصير مستقبل الدول الاقتصادي يتوقف على ثانية وأحيانًا الجزء منها.
لذا وبعد هذا العرض الموجز أطمئنك عزيزي القاريء والمستخدم أينما كنت أنَّ لا منطق يفوق منطقك العقلي في التصديق على معلومات مبهمة المصدر لا سبيل لها سوى إثارة القلق، وابحث بنفسك ليكون لك يد في صنع القرار.
المصادر:
1- جوشوا بارون، أنجيلا أوماهوني، دايفيد مانهايم ، وسينثيا ديون-شفارتس: تداعيات العملة الافتراضية على الأمن القومي، مؤسسة Rand، 2015.
2- راجع تقي الدين المنذر، “بتكوين وصدقة الجهاد” موقع صحيفة واشنطن بوست الإلكتروني، 2015.
3- براين كربز”الوداع الحقيقي”: استعمال تروكربت ليس آمنًا، ، Krebsonsecurity.com، 14 آيار 2014.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال